قصـة شبـاب سحرتهـم “الحلـوة” و”البيضـا” و”الكوكـا”

38serv

+ -

خلف جدران مركز معالجة المدمنين بمستشفى فرانس فانون في البليدة، قلوبٌ منهكة تستجدي العافية من سمٍّ رأوا فيه المتعة، فأضحى قيدهم وحبل مشنقة يلفّ مصيرهم.. هي أوصاف تعكس حالة مدمني المخدرات الصلبة في مشهد يجسّد صراع الأنا بين الرغبة والامتناع من تناول مواد تُجهل تركيبتها كالهيروين والكوكايين وليكستازي. حملت صائفة 2009 للشاب إلياس ليلة مشئومة، استنشق تحت نجومها جرعة كوكايين بدافع الفضول. يقول إلياس (31 عاما) مسؤول في شركة خاصة “وددتُ معرفة نشوة الكوكايين الذي أسرف صديقي في وصفها ونحن في طريق العودة، عندما لبّيت طلبه في إيصاله على متن سيارتي إلى محلّ يقع في أحد أحياء “الڤولف” الراقية بالجزائر العاصمة، حيث طلب منّي إفراغ العلبة الخاصة بالأقراص المضغوطة لسكب مسحوق أبيض، لم أدرِ أنني كنت أتهيأ لتحديد موعد مع حياة بائسة، بعد أن كررت تناول هذه المادة مرة ثانية وثالثة، ولكن في رابع يومٍ لم أتعاط البيضا، حينها توسّلت صديقي إحضار جرعة تُسيطر على إحساسٍ غريبٍ لم أعهده من قبل بالرغم من اعتيادي تناول الكحول”.يواصل محدثنا والقلق باد على ملامح وجهه، ونحن نجلس على طاولة مستديرة جمعت “الخبر” بمدمني الهيروين، “أحضر لي صديقي ما طلبته بمقابلٍ مادي طبعا، مع احتساب تكاليف التنقل، تضاعفت الجرعة إلى الغرام ثمّ غرامين فثلاثة على مدار عامين، دون أن تُشبع الكمية رغبتي في الشعور بنشوة البداية، لأنتقل مُجبرا إلى الهيروين بحثا عن إحساس وهميّ لسعادةٍ كانت جحيماً، دقائق تُحسب بالثواني وألمٌ تحسَبُه عذاب قبر”، هكذا شبه إلياس الذي ينزل بمركز معالجة الإدمان منذ أسبوع للمرّة الثالثة، أكّد أنّها ستكونُ الأخيرة بعد أن أختار والده الرحيل من الحيّ الراقي أملا في استعادة ابنه لحياته الطبيعية، مسترجعا نجاعة علاجه الأول سنة 2011 بعد فضح أمره أمام والده الذي فجع في رؤية ابنه يبكي ساقطا أرضا من شدّة الضعف، ووجع جسده بسبب عدم تعاطيه “السم الأسود”، وكيف تمكّن من السيطرة على نفسه طيلة 4 أشهر قضاها في العمل بإحدى ولايات الوطن، قبل أن تراوده نفسه استنشاق “المسحوق السحري” في أوّل زيارة قادته لأهله بالعاصمة، وكانت فرصة لإعادة لقائه برفقاء السوء.كان إلياس يصرف 30 مليون سنتيم أسبوعيا كما قال دون احتساب مصاريف احتياجاته اليومية، مؤكدا أنّه لم يندم على الأموال التي صرفها طيلة فترة إدمانه والتي قدرها بأكثر من 10 ملايير، كخشيته على صحّته، مؤكّدا أنّ المخدرات الصلبة متوفّرة كالمواد الغذائية، والبائع يشتمّ رائحة زبائنه من أوّل وهلة، أمّا إلياس فكان له “الكحلوش تاعو.. يأتيه بما يطلبه من المخدرات الصلبة وقتما يشاء”.إدمان خطيبها على الهيروين أفاقها من غفلتهافي الرواق لمحتُ حنان ذات 24 ربيعا تستقبلني بوجهٍ جميل يحمل في ملامِحِه براءة فتاةٍ تخشى على ضميرها الموت قبل جسدها المنهك بالأدوية التي تناولتها لسنوات. تزامنت زيارتي لمركز علاج المدمنين، مع أول يوم تقضيه حنان داخل أسوار المصحّة تقدّمت منّي باطمئنان يشوبه ارتباك.. صداع وقلق، هي أعراض تظهر على مدمني المهلوسات لدى امتناعهم عن تعاطيها، بصوت هادئ وخافت استهلت كلامها وهي تجلس على طاولة الزوّار قائلة “الحمد لله لم تأخذني النزوة في تعاطي الهيروين والكوكايين بالرغم من إلحاح صديقاتي”، غير أنّها استجابت مرّة واحدة لحبّة “سوبيتاكس” التي تعادل في خطورتها المخدرات الصلبة.تسترجع ذكريات مراهقتها قائلة إنّها انساقت وراء كبريائها وجرّبت أول سيجارة كرد فعل عن سخرية قرينتها من عدم إتقانها إمساك سيجارة في جلسة جمعتها بصديقاتها داخل قاعة شاي، لتقتحم عالم المخدرات في سنّ الـ20 بدواء جدّتها المهدئ المصابة بمرض القلب “إيكزومين”، وحاولت الانتحار بتناول جرعات زائدة بسبب خلافٍ بسيط مع والدها بعدما منعها من الخروج.غير أنّ وضعها سرعان ما خرج على السيطرة، عندما ناولها صديق خطيبها حبّة “ليريكا” مُسترجعة شعورها بوصف حالها “أنّها أجمل فتاة في الكون”، لتتعود على مختلف أنواع المهلوسات بحثا عن نشوة تصنعها “الحمرا”، “ليريكا” وأسماء أخرى، موضّحة أنّها كانت تشتري علبة الأقراص المهلوسة بـ12 ألف دينار توفّره لها عائلتها كلما احتاجت المبلغ دون معرفة فيما أنفقته، باعتبار تعوُّدِها على اقتناء “الماركة”.طيلة 3 سنوات، لم تعرف حنان طعم الهناء بالرغم من الحياة الهادئة التي تنعم بها، فبالرغم من اكتشاف أمرها من طرف والديها وعدم تقبّلهما لوضع وحيدتهما ومدلّلتهما، إلاّ أنّها لم تلق لوماً أو عتاباً سوى نصائحَ وخوفٍ من مستقبلٍ يُطفِئ شباب صغيرتهما. تُمسك حنان هاتفها الذكي لتعرض صُورا لها تحتفظ بها التقطتها قبل أن تظهر عليها أعراض الإدمان، متباهية بجمالها وكلّها أمل في عودة حُسنها، مؤكدة أنّ قرار العلاج كان بمحض إرادتها بعدما استفاقت من غفلتها على وقع صدمة نبأ تعاطي خطيبها الهيروين، حيث خيّرته بينها وبين السمّ الأسود فاختار الأخير مُجبرا.يبيع سيارته من أجل حقنةلا تختلف قصة الشاب “ح.أمين” (26 سنة) عن قرينيه سوى اعترافه بتحمّل مسؤولية انحرافه، مصرّحا بهدوء يشوبه إرهاق أن “الرّجلة” قادته للتدخين في سنّ الـ14، ليتبعها بالزطلة ثم المهلوسات بتناول 10 حبات يوميا. غير أنّ الجرعات لم تشبع حاجته فاستجاب لحقنة هيروين كانت كفيلة برسم أثرها طيلة 8 سنوات على شرايينه المسدودة.  ويستحضر أمين كيف وصلت به حالته إلى بيع سيارته من أجل ضمان حقنة اليوم الموالي، في حين أكّد أنّه بات الشغل الشاغل لعائلته التي صارت تحرسه أينما كان خوفا من تعرّضه لمكروه أثناء فقدانه لوعيه.إدمان في سن الـ12 عامايومٌ سابع يقضيه الشاب “ع. حمزة” (28 سنة) في تجربةٍ ثانية داخل مركز معالجة الإدمان والأعراض لا تزال تصاحب امتناعه عن حقنة الهيروين.كان حمزة يشتكي من آلام في الأطراف وصداع في رأسه طيلة الجلسة، إلى جانب شعوره بخمول شديد جعله يستعجل الحديث لأخذ قسط من الراحة، لكنّ شدّتها تتقلّص يوما بعد يوم بفضل الرعاية الطبية والأدوية، يقول محدّثنا الذي استهلّ كلامه مختصرا وضعه الحالي “جلبتُ معي الحفاظات استعدادا لمضاعفات المونك، ليبدأ في عرض روايته الأليمة وكأنّها تراجيديا تُجسّد دور طفل بريء دخل عالم الانحراف وهو في ربيعه الـ12 عبر أخيه، عندما أوصاه بإيصال كيس يحوي مهلوسات إلى شريكه لحظة وقوعه في قبضة الشرطة، وهي الفرصة التي لم يضيّعها في تناول الأدوية لمدة 6 سنوات تحت تأثير إغراءات صديقه بفعاليّتا، وبعدها “الزطلة”، قبل أن ينجرّ خلف مفعول “الفلاش” عندما ساقه الفضول لاكتشاف عالم آخر باستنشاق جرعة هيروين تحت أضواء الملاهي الليلية.يصمت حمزة مُسترجعا معاناته في سبيل تحصيل مبلغ الجرعة بشتى الطرق، واصفا بإيماءات يده أعراض الحاجة إلى المخدر وكيفية تعويضه بدواء السوبيتاكس الأخطر من سابقه، في حين أكد أنّ حبوب السعادة “ليكستازي” أو كما يعرف في الوسط الشباني “الحلوة” أشدّ خطورة باعتبار تركيبتها يجهل مصدرها.السحارة.. صفقة الأفارقة المربحةاتفق كل من إلياس وحمزة وأمين على أنّ الهيروين “عقار سحري يستحيل مقاومته”، وأوضح الأول أنّ المتعاطي يلحظ مواد غريبة بمجرد بعثرة المسحوق، وهو ما تأكد من خلال نتائج تحاليل دم حمزة الذي صدع بكلام القاضي عندما أخبره أنّ مشتقات الهيروين تحوي في خليطها على الجماجم، كما يتردّد في أوساط المدمنين أنّها تحوي في خليطها على السحر الذي يصنعه أفارقة يتزعمون شبكات ترويج المخدرات الصلبة، باعتبار أن مدمنا واحدا فقط يتكفّل بعملية الشراء من “الكحلوش تاعو” حسب المصطلح المتداول، ويتطلّب عرض الإفريقي على زبون جديد إبرام صفقة ربط العلاقة بدفع الأخير 50 ألف دينار، في حين يزاول أفارقة نشاطهم بالاستعانة بمترجمات لتسهيل الاتصال بين الزبائن، غير أنّ حمزة أكد وجود كلمات سرية مثل “أليمونتايشن”، “هالف”، “مارلبورو”.ويحكي إلياس أنّه استفاق مرة يبحث عن مفاتيح سيارته غير مصدّق رواية والدته التي أكدت تعرضه لحادث مرور خطير نجم عن انحراف سيارته عن مسارها، وانقلابها للجهة المعاكسة من الطريق السريع، وقال إنّه لم يتذكّر شيئا سوى أنّ النعاس غلبه بسبب تأثير السموم، في حين قال أمين إنّه كان ينام ساعتين داخل مرحاض منزله بمجرد أخذ حقنة هيروين خفية. ويروي عمي رشيد رئيس المصلحة بالمركز أنّ المصحة استقبلت حالة غريبة لمدمن التهم جرذٌ جزءا من رقبته، بعد أن غاب عن الوعي نتيجة أخذه حقنة داخل مستودع منزله.  الدكتور حميماش عبد الرحمن مختص في الأمراض العقلية“المدمنون على الأقراص المهلوسة في الصدارة” أكّد الدكتور حميماش عبد الرحمن، مختص في الأمراض العقلية وأستاذ مساعد في أمراض الطب العقلي بمركز معالجة المدمنين في مستشفى فرانس فانون بالبليدة، أنّ المدمن يحتاج إلى علاج عضوي ونفسي داخل المركز، بغض النظر عن المعاملة الخاصة نظرا لحساسية وضعيّة المدمنين، موضّحا أنّ المريض يخضع للعلاج لمدّة 21 يوما.وأشار محدثنا إلى أهمية توفّر عاملي الرغبة والإرادة في تقليص مدّة العلاج. ويهدف من خلال العلاج الطبي للإدمان إلى القضاء على الأمراض التي أصيب بها المدمن نتيجة تناوله السموم، والتهدئة العامّة للمدمن من خلال إعطائه أدوية معينة لكبح الرغبة الجامحة لمدمن الهيروين ومنع الأعراض الانسحابية، ويصاحبه العلاج النفسي والإرشادي لمنع انتكاسة المريض المدمن، مؤكدا في السياق على أهمية دور الأسرة والمحيط الاجتماعي في دعم المريض للتخلص من إدمانه.بينما يتعلق العلاج الخارجي بزيارات أسبوعية منتظمة تجمع المريض بطبيبه لمتابعة تطوّرات الشفاء، وتنتهي بتمديد اللقاء إلى زيارات شهرية.لكن نتيجة العلاج لا تحسم في أغلب الحالات، خاصة بالنسبة للمرضى القاطنين بولايات بعيدة الذين يتعذر عليهم الاستمرار، الأمر الذي يتطلب توفر عدة مراكز عبر كامل ولايات الوطن لضمان العلاج الداخلي الذي يضمن عدم عودة المريض إلى الإدمان، في وقت تعدّ المتابعة النفسية للمريض أهم عامل لكسر الارتباط النفسي بالإدمان، ويساعده على الإقلاع عن تعاطي المخدرات بشكل نهائي.وكشف الدكتور حبيباش عبد الرحمن أنّ مركز معالجة الإدمان يستقبل يوميا أكثر من 50 مريضا يرغبون في العلاج من الإدمان على المخدرات، وأوضح أنّ المركز الذي يشرف عليه طاقم طبي يتوفّر على 40 سريرا مخصّصا للرجال و10 أسرّة للنساء، مؤكدا أنّ الإمكانيات محدودة لا تتناسب وعدد المدمنين المتوافدين على المركز من مختلف ولايات الوطن طلبا للعلاج الداخلي.ويذكر أنّ عدد المُدمنين المُتوافدين على مصلحة العلاج في تزايد مستمرّ، فبعد 3755 مريض تمّ تسجيله سنة 2005، ارتفع العدد سنة 2008 إلى نحو 5 آلاف مريض، ليصل عام 2013 إلى 8 آلاف مدمن. ويتصدّر عدد المدمنين على الحبوب المهلوسة قائمة العلاج بـ4419 حالة، يليها القنب الهندي بـ1627 حالة، ثم المخدرات الصلبة كالكوكايين والهيروين بـ1137 حالة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات