بعض المسلمين يعتقدون أن التطور يكمن في العودة إلى السلف ❊ الثقافة العربية مريضة وعلتها في القارئ ❊ أرجو أن تحتفي الجزائر بآسيا جبار كما يليق بهاشخّص المفكر والأديب العالمي السوري، علي أحمد سعيد، المشهور بـ”أدونيس”، واقع الوطن العربي في أبعاده الفكرية والسياسية، مشرّحا نكساته ومعيقاته التي حالت دون مواكبته الأمم المتقدمة، غائصا في لقاء خصّ به ”الخبر” بالعاصمة التونسية، في عمق الشارع العربي للبحث عن أسباب استقالته من الحياة الثقافية وعزوفه عن المطالعة، وطغيان النزعة الفردانية عليه. حاول الكاتب تفكيك الواقع العربي وسط الصراعات والتنظيمات وتضارب المصالح، حيث يعتقد أن الوطن العربي يعاني من أمية سياسية وقرائية؛ وهذا الحال لا يقتصر على المواطن البسيط، بل حتى على ذوي المستوى العلمي المحترم، ويؤكد أن التغيير المراد بلوغه، لا يمكن أن يتحقق بمنطق العنف أو الاعتماد على الغير، لأن أهم شيء في الثورات هو وجود مشروع.وصفت الواقع الثقافي العربي بالمريض، وعِلّته تكمن في القارئ والمتلقي، ليس للمثقف مسؤولية فيه، كيف ذلك؟ أرى أن الثقافة العربية معلولة في جوانبها الفكرية والأدبية، وهذه العلة جاثمة على الجمهور المتلقي، وليس على المبدعين، لأن الكتاب والمفكرين والشعراء في العالم العربي، لم يجدوا قارئا ومتلقيا يرقى إلى مستواهم. فالأخير ينشأ ويعيش في حيّز لا ينظر إلى الثقافة بوصفها وظيفة حيوية تابعة للنظام القائم؛ وإنما شيء ثانوي يمكن الاستغناء عنه، إذن فهي لم تتحوّل بعد إلى آلية بحث واستقصاء ونقد، نظرا لتعطشنا إلى جرعة كبيرة من الحرية.لماذا فقدت النخبة تأثيرها على الواقع؟ وما هي أسباب عجز الشباب العربي عن إنتاج ثقافة خاصة بهم؟ صحيح؛ النخبة غائبة أو قد تكون مُغيّبة. وأشير إلى أني لا أؤمن بمفهوم النخبة، هناك مثقفون وكتّاب ومفكرون يعتبرون أحد مكونات المجتمع، غير أن تفشي الأمية أضعف دورهم البنائي وأنتج تدنيا فادحا في مستوى الجمهور القارئ، ومنها عملت على انقراضه، رغم أن الدول العربية تملك من الثروات ما يُمكّنها من وأد الأمية، فهذه الظاهرة توسّعت بشكل مرعب وغير معقول، لتصل نسبتها إلى 20 و40 بالمائة في بعض البلدان العربية. هذا أحد الأسباب، وثانيها يكمن في إحساس المفكر أو الكاتب أو الشاعر بأنه مقيّد وفاقد للحرية أثناء طرح أفكاره وتصوراته؛ فهو مُراقب من جميع المناحي.. من الجماعات الدينية المتطرفة التي لا تفهم الإسلام إلا بوصفه تحريماً وتحليلاً، ومقيّدا من الأنظمة السياسية والاجتماعية التي لا تسمح باجتياز خطوط حمراء كانت قد أقامتها سلفا، وهو ما أدى بالجماهير إلى هُجران ثقافة الكلمة والانصراف إلى ثقافة الصورة، فأضحت عاجزة عن حمل كتاب وقراءته.إذن الأمية هي التي أفقدت المجتمع قدرته البنائية ودفعته إلى الإيمان بالأساطير التي يُنتجها بمختلف أنساقه الاجتماعية والسياسية والثقافية واكتسبت مع مرور الوقت صفة القدسية والتقاليد؟ هذا صحيح.. يا ليت كانت أساطير.. فهذه الأخيرة لها بُعد ثقافي عظيم، فالعقلية السائدة خرافية، والمتوغل في عمق الأوساط الشعبية يرصد أمية سياسية وقرائية؛ وهذا الحال لا يقتصر على المواطن البسيط، بل من لهم مستوى علمي محترم، لأنني أعرف بسطاء يفهمون ويتذوقون الشعر أحسن من الأساتذة أحيانا. وأود الإشارة إلى حبي الاستثنائي للطبقات الشعبية حيثما كانوا.. نمط عيشهم ومنطقهم وقوانينهم الاجتماعية التي يفرضونها على الحياة.. غير أن كدّهم وكفاحهم لتحقيق قوت يومهم، وكذا هاجس الإرهاب والتدمير باعد الشباب العربي والقراءة؛ لتعم ثقافة الكسل وتسيطر نزعة اللامبالاة، وهو ما أنتج لنا أشخاصا لا يستشرفون مستقبلهم ولا يخططون له وغير واعين بما يحدث حولهم.لماذا عجز العقل العربي عن صناعة حضارة ومواكبة العالم المتقدم، رغم ما يمتلك من ثروات بشرية وطبيعية؟ العرب أبدعوا في الماضي، لكنهم الآن تحوّلوا إلى الاستهلاك، وبشكل فائق لطاقتهم، كأنهم يريدون تعويض القصور والعجز والفقر بنزعة تبذيرية تترجم حالة نفسية مرضية منهكة ومعذبة، تستدعي دراستها بالاعتماد على مقاربات علم النفس. فالوطن العربي يلتف حول السياسة والسجون والمعتقلات، لكنه يهمل العالم الداخلي والنفسي للفرد، المُنهك بالفقر والتشرد والضياع والبطالة والعنف، وهي عوامل أنتجت فيما بعد الظواهر الإسلامية المتطرفة، لنحصد عالما بائسا معذّبا. أما الذين يعتقدون أنهم يخدمون الدين بتصرفاتهم العنيفة التي نشاهدها اليوم، فهم بصدد تشويهه وقتله، ورسم صورة قاتمة في أذهان الناس عن الإسلام.مَن أفرغ المجتمع من محتواه حتى أصبح أصمّ لا يستمع لمثقفيه؟ هناك مجتمعات حية ووظيفية تبني كيانها بشكل ذاتي، تتصارع فيها قوى سياسية حول استطاعة تقديم برامج وأفكار إبداعية أكثر، كما أن ساستهم يشتركون في قاسم خدمة الوطن، كلٌّ حسب مقاربته وانتمائه، في حين نجد السياسي العربي يهتم بالقومية والأفكار السياسية القديمة البعيدة عن واقع المجتمع. المثقف العربي إما ديكور أو موظف، والثقافة العربية ملتفّة حول السلطة، انطلاقا من فكرة مترسخة وثابتة، مفادها أن ”السلطة تمثل اللّه في الأرض”. والمفارقة هي في الوقت الذي يجب أن تكون السلطة مسؤولة أمام الشعب، أضحى الأخير مسؤولا أمام السلطة، وهي المأساة.. نسير باتجاه الانحدار في القيم والمفاهيم.هل يمكننا وصف هذه الحالة بالمؤامرة أم بتواطؤ للأضداد ضد العرب؟ هو تخطيط أجنبي ويتجلى في سكوت بعض الدول حين تمتلك إسرائيل القنابل النووية، بينما يثورون عندما تحاول إيران تطوير برنامجها النووي.. ما المعايير في ذلك؟ هل يضمن الغرب والقوى الكبرى إسرائيل؟ألا ترى أن المعادلة اختلّت وأضحى الكاتب والشاعر والمثقف هو من يبحث عن الجمهور، وليس العكس كما في السابق؟ لا يمكن أن يكون للمثقف وظيفة ومفعول في كنف المجتمع العربي حاليا، في حين استطاع ميشال فوكو وجون بول سارتر وريمون تنوير الشعوب الأوروبية قبل قرن، لماذا؟.. لأن السياق والمجتمع آنذاك احتضنهم وأعطى لهم مكانة حقيقية في المؤسسة الثقافية، وليس مكانة خيالية وعاطفية. في العام 1968 كان سارتر يبيع الجرائد على قارعة الطرقات، ونوى أحد رجال البوليس اعتقاله، مصدرا أمرا لمن يليه رتبة، فردّ الأخير ”هذا فولتير فرنسا اتركوه لا تعتقلوه”.. مثل هذه المواقف نادرة في الوطن العربي، فالمثقف لا قيمة له.. قد يُعتقل ويُسجن دون أن يتحرك ساكن، ولنا في نصر حامد أبو زيد وفرج فودة دليل على ذلك. وحتى الذي لا يُعتقل يُقتل بالتكفير أو العزل وهو أسوأ من حكم الدولة. إذن، لا يمكن أن يكون للمثقف دور، وبالتالي فالثقافة العربية ليس لها دور، وهي محاصرة ومراقبة ومنبوذة.نتطرق إلى المسألة السورية، كيف يتصور أدونيس حل الصراع الدائر هناك؟ سوريا جزء مما تكلّمت عنه، وأنا شخصيا ضد الأنظمة الطاغية أيا كانت، وجميع الدول العربية تختزل في نظام واحد مع فارق في النوع والدرجة. إذن، هناك نظام عربي طغياني واحد يجب أن يتغير، والنظام السوري جزء منه. والتغيير المراد بلوغه لا يمكن أن يتحقق بمنطق العنف أو الاعتماد على الغير، لأن أهم شيء في الثورات هو وجود مشروع، وترك الثقافة الدينية جانبا، مع احترامي للدين بوصفه تجربة فردية وشخصية، من هذا المنطلق نكون بصدد وجوب فصل الدين عن السياسة، لأن استعمال الدين هو شكل آخر من أشكال النظام الطاغي، وبعد سنوات من القتل والدمار نكتشف أنهم دمروا البلاد ولم يسقطوا النظام.لماذا تُستهدف سوريا بالضبط؟ لأن سوريا عقدة أساسية في المنطقة، وهي سُرّة العرب، خُرّبت بالكامل وهجرها 10 ملايين شخص من أهلها، كما أن عدد اللاجئين في الداخل وصل إلى حوالي 4 ملايين. أين هي غيرة العرب؟ وعلى إثر هذا كبرت لدينا مخاوف من إنشاء دولة ”داعشية” في صلب العراق وسوريا وبحماية تركية.العرب ممزقون في صراعهم بين الامبريالية الصهيونية والمدّ الإيراني، ألا ترون أنهم يدفعون ثمن ذلك؟ أعتقد أن الصراع في الشرق الأوسط تخطى الأنظمة وصار صراعا دوليا، تديره محاور متعددة، والعالم العربي مجرد فضاء استراتيجي، وثروات تتصارع القوى الكبرى حولها. وأطراف الصراع هي أمريكا وأوروبا وطبعا إسرائيل من جهة، والصين وروسيا كحلف غير معلن من جهة أخرى، الأول حلف مهاجم والآخر مدافع. العرب ليس لهم قضية، دُمّر على مرآهم العراق وسوريا وليبيا والآن اليمن ولا أحد منهم تحرّك، غرقوا في سكوت يعكس خوفا على سلطتهم. جميع الخيارات السياسية والسلمية كانت متاحة وقائمة لرأب الصدع في اليمن مثلا، لكن فجأة تشّكل تحالف دولي عربي لضرب تنظيم الحوثيين، غير مدركين بأن الوطن العربي تحول إلى سوق رحب لبيع الأسلحة.ما تفسيرك للغز تمدّد تنظيم الدولة الإسلامية في عمق الأراضي السورية والعراقية؟ ما المضحك، أن نشاهد 30 دولة متحالفة لضرب تنظيم، هذا التنظيم مدعوم من قِبل أمريكا وإسرائيل وكذا تركيا، وحتى بعض العرب للأسف؟كتبت في آخر عدد من مجلة ”دبي الثقافية” أن علمنة المجتمع لا تعني تخلي الفرد عن معتقده الديني؟ هل هذا يعني أن العلمانية لها مفهوم آخر عند العرب؟ هل لكم أن تفسروا لنا أكثر؟ نحن العرب المسلمين نتعامل مع الإسلام على أنه دين ودولة، وهذا غير موجود في التراث الإسلامي، كما لا يوجد نص واضح أكّد ذلك. فالإسلام رسالة للإنسان؛ فليس من الضروري جعل الدين مؤسسة تربوية وسياسية واقتصادية وثقافية فهذا تدمير للمجتمع وحرياته. ليس من حق أيّ كان أن يفرض الإيمان والإسلام عنوة على الأشخاص، ويتغنى في الوقت ذاته بحقوق الإنسان. أين هو كلام اللّه الذي يخاطب نبيه قائلا: ”إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء”، و”لست عليهم بمسيطر”، و”من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، و”لا إكراه في الدين”، كلها آيات صريحة توضح أن لا إكراه في التدين.كتبت أيضا أن اللغة العربية حُوّلت إلى حقيقة مطلقة بوصفها الحاضنة لكلام اللّه وليست جزءا من الواقع، كيف ذلك؟ معاني القرآن تُؤخذ عبر اللغة، فالقرآن نص لغوي تقابله الحياة اليومية، وبالرجوع إلى الوراء بنحو 14 قرنا، نجد أن الحياة في ذلك الزمن، ليست كما هي عليه حاليا، حيث تغيّرت ملامحها وأساليبها وأدواتها ونمط عيشها، والمسلم لا يرى الحقيقة إلا في النص القرآني، ومفهوم التقدم، حسبه، يختزل في الرجوع إلى السلف؛ بمعنى أنه كي تتقدم يجب أن ترجع إلى الوراء. إنه شيء مخيف وقاتل لحركية المجتمع. وفي الجزائر لا يُطرح هذا الإشكال كما في لبنان، لأنكم كلكم مسؤولون، لكن يتجلى ذلك على مستوى السلطة، فإن لم تكن معها فأنت ضدها، حينئذ يتم حرمانك من بعض الحقوق كالدراسة في الخارج. المجتمعات العربية تحكمها الثقافة الدينية والسلطة السياسية المستندة على تلك الثقافة، وعليه لا يمكن إرساء ديمقراطية.يحيلني كلامك على سؤال حول ماهية الديمقراطية في خضم كل هذا الدمار، ما هي الديمقراطية عند أدونيس؟ الديمقراطية في أزمة.. فهي بالأساس ثقافة وممارسة وأخلاق عالية تتجلى في العدالة والمساواة، زد على ذلك هي مشروع عملت على تجسيده دول عديدة أوروبية مثل فرنسا، ويتجلى ذلك في تساوي القوى السياسية المتصارعة أمام القانون وكذا من حيث الظهور في وسائل الإعلام العمومية.لكن كيف نصفها بالديمقراطية وتقلد منصب الرئيس لا يكون إلا بمباركة لوبيات وقوى خفية؟ صحيح؛ يوجد هناك ضغط داخلي، لكن أنا أتحدث هنا عن قانون واحد فوق الجميع، وهذه من أوجه الديمقراطية.رُشّحت لنيل جائزة نوبل للآداب، هل يمكننا التطرق لهذا الموضوع؟ معذرة.. ممكن تفادي الحديث في هذا الشأن.أدبياً.. ما هي علاقتك بالكاتبة الجزائرية الراحلة آسيا جبار؟ هي كاتبة مرموقة وقامة في الأدب، وكنت أتواصل معها من حين إلى آخر، وأرجو أن تحتفي الجزائر بآسيا جبار كما يليق بها. كما أنني أعرف كتّابا جزائريين مثل كاتب ياسين ومولود معمري والطاهر وطار ورشيد بوجدرة والطاهر جاووت ومحمد ديب وعمر أزراج وأمين الزاوي وواسيني الأعرج، وآخرين لا تحضرني الذاكرة لذكرهم جميعا، كما أشير إلى أنني أحب الجزائر كثيرا.كيف تقيّمون وضع الإنسان في العالم اليوم؟ هناك من يقول إنه يعيش أزمة أخلاق وقيم.. أعتقد أن هناك أزمة كبيرة في العالم، وأوروبا نواتها، لكن التفاؤل يظل قائما، مادام هناك مفكرون يتنبأون بالأزمات وينتقدون الواقع الثقافي والسياسي والاقتصادي مثلما هو الحال في أمريكا. وللأسف لا يوجد ما يقابل ذلك في المجتمعات العربية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات