+ -

إنّ من مقاصد الإسلام التربوية الوصولَ بالمسلم إلى التّحرر من الهوى، والخضوع المطلق للحقّ؛ طلبًا له ابتداءً، والتزامًا به انتهاءً. فالإسلام هو الحقّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. وتنكّب طريقه ومخالفته إن هي إلّا اتباع لأهواء النّفوس: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}، وهذا هو سبيل الضّلال البيّن: {.. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.نعم لقد جاء الإسلام ليُربّي أبناءه على الحقّ، حبًّا له وتعشّقًا، وإنّما ينصرف النّاس عن اتباع الحقّ بعد حصحصته وظهوره ميلًا مع أهواء نفوسهم، فالهوى داء قاتل يقتل في النّفس أجمل ما تتحلّى به، ويصرفها عمّا يجملها ويزكّيها!لا عجب أن وجدنا القرآن الكريم يعلنها حربًا لا هوادة فيها على الهوى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..}. ولا عجب أن وجدنا القرآن العظيم يجعل الهوى في مقام المعبود جهلًا، كما يجعله سببًا في الضّلال، وتعطيل الحواس والعقل، وعدم الانتفاع بالعلم لدى المتلبّس به: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.وعلى كلٍّ فالأمراض النّابعة عن اتباع الهوى عديدة، وإنّما أنبّه هنا على واحد منها، بل من أخطرها، وهو سيطرة الأفكار المسبقة على فكر الإنسان، حتّى تجعل بينه وبين الحقّ حاجزًا، وتصرفه عنه، وتعمي بصره عن رؤية الآيات البيّنات، وتصمّ أذنه عن سماع الحجج الباهرات، وتغلّ عقله عن تفهّم البراهين القاطعات. هذه الأفكار المسبقة الّتي عادة ما تكون نتيجة لنظرة متسرّعة إلى الآراء والأشخاص، أو لنظرة موروثة من غير تمحيص، أو لنظرة مرتجلة دون تعمّق في دراستها، أو تكون صدى لآراء شخص مشهور فيها! وهي تتحكّم في المُبتلى بها لدرجة غريبة تجعله يرفض الحقّ البيّن، ويموت في سبيل الباطل الصُّراح!وفي القرآن الكريم أمثلة للأفكار المسبقة وأين تصل بأصحابها، ومن ذلك موقف فرعون حين طلب إحضار أعلم السحرة لتحدّي موسى عليه السّلام: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}، ولم يكن قصده اتباع الحقّ بل موقفه كان حاسمًا قبل المواجهة؛ ولذلك قال: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}، وهذا شأن المغرورين بهواهم، الخاضعين لأفكارهم المسبقة: أنّهم لا يفرضون من الاحتمالات إلّا ما يوافق هواهم ولا يتقبّلون مجرّد التفكير لاحتمال نقيضه. ولهذا لمّا تبيّن للسحرة أنّهم أمام أمر معجز، لا قبل لسحرهم به، خضعوا وأسلموا، ولكن بعد أن شهد لهم فرعون بعلمهم بالسحر نجده يقول لهم: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}، فصيّرهم تلاميذ لموسى عليه السّلام بعد أن ارتضاهم لتحدّيه، وما ذلك إلَّا استمساكًا بأفكاره المسبقة على سخافتها وسذاجتها.والمثال الثاني هو لكفار قريش، وهؤلاء كان أمرهم غريبًا عجيبًا، وتحكّم الأفكار المسبقة فيهم بلغ مبلغًا رهيبًا. فممّا قالوه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، “وهو دعاء غريب يصوّر حالة من العناد الجامح الّذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحقّ، حتّى ولو كان حقًّا! إنّ الفطرة السليمة حين تشكّ تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحقّ، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة. ولكنّها حين تفسد بالكبرياء الجامحة، تأخذها العزّة بالإثم، حتّى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحقّ عند ما يكشف لها واضحًا لا ريب فيه..”، وهذا لأنّهم قد حسموا أمرهم مسبقًا على تكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جحودًا وعنادًا، وقد أيقنوا بصدقه وعرفوا أمانته.والأمثلة في هذا المجال متوافرة، ويكفي في هذا المقام ما ذكر. وفيها مُزدجر ومُعتبر. إذ ما أكثر من تتحكّم فيهم أفكارهم المسبقة، وتصنع قناعاتهم معتقداتهم المسبقة، وتوجّه عقولهم هذه الأفكار والمعتقدات، وقد يتعصّبون لها تعصبًا أعمى، ويحسبون أنّهم إنّما يتّبعون الحقّ البيّن. وهم غارقون في الباطل، سادرون في الخطأ!. ولا يتقبّلون مجرّد مراجعة أنفسهم، ومراجعة أفكارهم، ومراجعة مواقفهم. والعاقل مَن انتبه لهذا المنزلق الخطير، وحرص على أن لا يقع في أتونه وشراكه!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات