يروي الإمام البيهقي في شُعب الإيمان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنّ الشّيطان قد يَئِس أن تُعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن سيرضى منكم بدون ذلك، بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة، فاتّقوا المظالم ما استطعتم”.مداخل الشيطان لبثّ الفرقة والاختلاف، وهدم صروح الوحدة والائتلاف كثيرة جدًّا ومتعدّدة، فكم هم أولئك الّذين صدّهم وأبعدهم عن الصّراط المستقيم، مع أنّ ربّنا سبحانه قد ذمّ الاختلاف في كتابه، ونهى عن التفرّق والتّنازع في محكم خطابه، ويظهر لنا ذلك جليًا من وجوه عديدة؛ منها أنّ الله تعالى جعل الاجتماع والائتلاف وصية كلّ الرّسل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، كما أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه أن يتبرّؤوا من جميع مَن دعا إلى التشرذم والتفرّق: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}.وجعل المولى سبحانه الفُرقة من خصائص المشركين، فقال عزّ من قائل: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، وبالعكس فإنّ من خصائص المؤمنين الوحدة والجماعة، قال جلّ ذِكرُه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. فالعجب كلّ العجب ممّن يخالف المشركين في لباسهم، ويحرص على مخالفتهم في شؤون حياتهم، ثمّ هو واقع في أبرز صفاتهم وهي الفرقة والشّقاق! وربّنا سبحانه ذمّ الفرقة ووصفها بأنّها عذاب: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، وفي الصّحيح: ”الجماعة رحمة والفُرقة عذاب”، غير أنّ الشّيطان لبَّس على الكثير ففرحوا بما هم عليه من الفرقة: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.وها هو التاريخ يشهد بأنّ من أهم أسباب سقوط الدول على اختلاف عقائدها ومللها التفرّق والاختلاف؛ فالخلافة العباسية سقطت بعد أن تفرّقَت وتحوّلَت إلى دويلات لا قيمة لها في حياة النّاس، وما هي إلّا برهة من الزمن حتّى زحف المغول إلى بغداد، فقتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة، كما يذكر المؤرّخون، فما أشبه الليلة بالبارحة! وقل مثل ذلك عن جنّة الأندلس الّتي تحوّلَت هي الأخرى إلى أشلاء متفرقة متناحرة، فلا همَّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان، حتّى لو كان على بقعة لا تجاوز حظيرة خراف، ولم تسقط الخلافة العثمانية إلّا بعد أن تمزّق جسدها، بعد أن أغرى الصليبيون زعماء المسلمين بالانفصال عنها، مطبّقين مقولة: فرِّق تسُد، وهكذا صارت كلّ تلك الدول أثرًا بعد عين.إنّ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن أنّ الاجتماع من أعظم ما يرضاه المولى سبحانه، ففي الصّحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا مَن ولّاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال”، بل إنّ رسول الله قد حكم على مفرق الصفوف بالموت: ”تكون هَنات وهنات (فتن)، فمَن أراد أن يفرّق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسّيف كائنًا مَن كان”.واعْلم رعاك الله أنّ الفُرقة من الشّيطان، وما من أمر رضيه الله عزّ وجلّ لنا إلّا والشّيطان قاعد لنا ليصدّنا عنه، فعلينا أن نحرِص على وحدة صفوفنا ولمِّ شملنا، وألّا نكون خُدّامًا للشّيطان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، ويوضّح ذلك ما أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثمّ يَبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ثمّ يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتّى فرّقتُ بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت”، فإذا كان الشّيطان يفرّح كلّ هذا الفرح، ويزول عنه كلّ ذاك الترح لأجل التّفريق بين الرجل وزوجه، فكيف إذا فرّق بين الأمم والمجتمعات، وشتّت شمل الجماعات؟ويروي أبو داود عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه قال: كان النّاس إذا نزلوا منزلًا تفرّقوا في الشِّعاب والأودية، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إنّ تفرّقكم في هذه الشّعاب والأودية إنّما ذلكم من الشّيطان”، فلم ينزل بعد ذلك منزلًا إلّا انضم بعضهم إلى بعض حتّى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمّهم، وما من مسلم إلّا ويعلم أهمية تسوية الصفوف: ”رُصّوا صفوفكم وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالّذي نفسي بيده إنّي لأرى الشّيطان يدخل من خَلَل الصفّ كأنّها الحَذَف (غنم صغار سود)”.وها هو سيّد الخلق يُبيّن أهمية الجماعة وخطر الفرقة: ”أوصيكم بأصحابي ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يفشو الكذب حتّى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألَا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان، عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشّيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، مَن أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، مَن سَرّته حسنته وساءته سيّئته فذلكم المؤمن”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات