طغت ظاهرة الغش هذه الأيّام على الأخبار الرئيسية في بلادنا، غش في الامتحانات، غش وتزوير في نتائج المباريات، غش في الصناعة، وغش في الزراعة ممّا ينذر بسقوط كبير في أخلاق وسلوك الأفراد ودمار وانهيار لمقومات المجتمع..يُعرّف العلماء الغش لغةً بأنّه خَلْط الشّيء بغيره، أمّا في الشّرع فهو خَلْط الجيد بالرديء؛ ويتجلّى الغش في خلط الأشياء وتغيير طبيعتها وتحريف واقعها، عن طريق الكذب والتحايل والتزييف والتدليس.يعتبر غشاشًا كل فرد، في أيّ مجال كان، يلتجئ إلى طرق غير مشروعة، كالخيانة والسرقة والكذب، معتمدًا على الحيل والمكر والتزوير والتلاعب، لتحقيق أهدافه الشخصية التي من خلالها، يلحق أضرارا مادية ومعنوية بقضايا الآخر وحاجاته.وديننا الإسلامي يحرم الغش والخداع بكل صوره، في بيعٍ وشراءٍ، وفي سائر أنواع المعاملات الإنسانية، والمسلم مطالب بالتزام الصدق في كل شؤونه، والنصيحة في الدين أغلى من كل كسبٍ؛ قال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: ”الدّين النّصيحة”؛ قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدّين: ”الغش حرامٌ في البيوع والصنائع جميعًا، ولا ينبغي أن يتهاونَ الصانع بعمله على وجهٍ لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه، بل ينبغي أن يُحسِن الصنعة ويُحكِمها، ثم يبيّن عيبها، إن كان فيها عيبٌ”.لقد ذمّ الله عزّ وجلّ الغش وأهله في القرآن وتوعدهم بالويل، ويُفهم ذلك من قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينْ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}. قال الإمام الطبري: قوله: {لِلْمُطَفِّفِينَ} يعني: للذين ينقصون الناس، ويبخَسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم، أو موازينهم إذا وزنوا لهم، عن الواجب لهم من الوفاء.قال الإمام النووي: الغش ليس مِن أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعَلهم كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، والمؤمن يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه. وقال ابن حجر الهيتمي: صور الغش التي يفعلها التجار والعطارون والصواغون والحيَّاكون وسائر أرباب البضائع والمتاجر والحِرَف والصنائع كله حرامٌ شديد التحريم، موجبٌ لصاحبه أنه فاسقٌ غشاشٌ خائنٌ، يأكل أموال الناس بالباطل، ويخادع اللهَ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما يخادع إلا نفسه؛ لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه؛عن معقِل بن يسارٍ المزني قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلّا حرَّم الله عليه الجنّة”؛ قال القاضي عياض: هذا الحديث معناه بيِّنٌ في التّحذير من غشّ المسلمين لمَن قلَّده الله تعالى شيئًا من أمرهم واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصَحْ فيما قلده؛ إما بتضييعه تعريفَهم ما يلزمهم من دِينهم وأخذهم به، وإما بالقيام بما يتعين عليه مِن حفظ شرائعهم والذبِّ عنها.إنّ الغش في التعليم والامتحانات حرامٌ بإجماع العلماء؛ لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”مَن غشَّ، فليس منّي”، وهذا عامٌّ يشمَل الغش في الامتحانات وغيرها، قد يغش الطالب في الامتحانات ويحصل على شهادة لا يستحقّها، ويتبوأ بها منصبًا وهو ليس أهلًا لذلك المنصب، وبهذا الغش يخرج جيلٌ جاهلٌ منحرف، غيرُ مؤهلٍ لقيادة الأمة.كما يمكننا أن نرجع أسباب الغش في الأمور التالية: ضعف الإيمان بالله تعالى، وقلّة الخوف منه، والجهل المسلم بحرمة الغش، وأنّه من الكبائر، والحرص على جمع الأموال من أي طريق كان، وعدم الرضا برزق الله تعالى، والتربية غير السليمة، التي تتنافى مع الأخلاق والآداب الإسلامية، وعدم تذكُّر الموت والدار الآخرة والحساب والعقاب يوم القيامة.ويعتبر الغش جريمة، كما يعتبر التّغاضي عنها أكبر خديعة ترتكب في حقّ المجتمع. فالغشّاش في الامتحانات أو في أي مجال كان، لا يتوقع منه أن يكون أمينًا ومستقيما وفاضلا، ذلك أن الفضيلة تعني استعدادًا لفعل الخير ورد الشر ونبذ الفساد، والغش مصدر الظلم الاجتماعي، وضرب مبدأ تكافؤ الفرص، ذلك أن الغشاش يزيح من هو أكفأ منه وأكثر منه كفاءة واستعدادا، ليحل محله دون وجه حق.وللغش آثار وأضرار وخيمة على الفرد والمجتمع، فهو معصيةٌ لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يُفيد الغشَّاشَ إلّا الوِزْرَ، والخزيَ العاجل والآجل إن لم يتُبْ، ويعتبر خيانة للأمانة التي كلف الله تعالى الإنسان بها. وفيه دليلٌ على أن نفس الغشّاش خبيثةٌ، وهو من الكذَّابين والخونة والظلمة.والغش يمحو البركة من عملِ ومالِ صاحبه، والغش من أسباب عدم إجابة الدعاء. وسببٌ لقطع الصلات، وزعزعة الثقة في المجتمع، وإثارة الأحقاد والبغضاء بين النّاس، وسببٌ لنشر الفساد وتضييع مصالح الناس. والغشّاش ليس في قلبه رحمةٌ للمسلمين، وأنه لا يحب لهم ما يحب لنفسه.كما أنّ الغش مصدر انتشار الأمراض والأوبئة الاجتماعية الناتجة عن ممارسات خسيسة في المعاملات التجارية والمهن الاجتماعية والاقتصادية والفلاحية والصناعية والخدماتية، تسهم في تخلف المجتمع عن مواكبة ركب الحضارة والتقدم، إذ تشهد المهارات الفردية والكفاءات العلمية والتكنولوجية انحدارا وتقهقرا.لذا وجب التصدي إليها ومحاربتها بكل الطرق والأساليب، وإن من وسائل القضاء على الغش: إخلاص العمل لله تعالى، وأن يتضرُّع المسلم إلى الله تعالى بالدعاء بأن يكفيَه بحلاله عن حرامه، وتقوية الثقة بالله تعالى، واستشعار مراقبته سبحانه، وضرورة الاهتمام بتربية الفرد تربية سليمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعاقبة مرتكبي الغش؛ لردعِهم عن ذلك، وبالنظر للعواقب السيئة للغش في الدنيا والآخرة.*كلية الدراسات الإسلامية/ قطر
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات