استعر الغضب المغربي من التقارب الجزائري - الخليجي خلال الأشهر الماضية، وبلغ مداه، ولم يكن ممكنا إخماده إلا باتخاذ قرار تأمل من خلاله الرباط إحداث قطيعة بين الجزائر والخليجيين، بعد اقتناع هؤلاء بمواقفها الصريحة تجاه أزمات عربية خطيرة في المنطقة سببها إشعال شرارات ما يسمى "ثورات الربيع العربي".آخر فصل من فصول التخبط المغربي، إقحامه الجزائر في خلاف غير مؤكد مع إيران حول تورط هذه الأخيرة أو مخابراتها في تدريب شباب البوليزاريو، وأين، في المخيمات في تندوف الجزائرية! وإذا كان هذا الاتهام الجزافي غير مقنع بالنسبة للذين يعرفون خبايا الدوافع المغربية، فإن التعامل الجزائري معه جاء كما جرت العادة "متريثا ورصينا وحكيما"، على حد قول دبلوماسي مخضرم.هذا الأخير، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، يعتبر بأن ما أقدم عليه المغرب مجرد زوبعة إعلامية، الهدف منها "مغازلة ونيل إعجاب" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والارتماء بين أحضان اللاعبين المحوريين في منطقة الخليج العربي، طلبا للغفران بعد اختياره الوقوف إلى جانب دولة قطر في دفاعها عن نفسها ضد ما تعتبره الدوحة "حصار" جيرانها منذ جوان 2017.ولما كان الموقف الجزائري من اليمن وسوريا وليبيا صريحا، وصار متفهما من طرف المجموعة العربية المحورية، أدرك المغرب بأن استمراره في تجاهل التقارب بين الخليج والجزائر، لن يصب في مصلحته على المدى القريب، خاصة أنه يعلم بأن الخطوات الخليجية نحو الجزائر تجاوزت كل التوقعات، معززة بمؤشرات حول بدء تعافي الاقتصاد الوطني من مخلفات الأزمة النفطية في 2014، وهذا بعد أن نجحت مساعي الجزائر في إقناع كبار المنتجين من داخل أوبك وخارجها، وفي مقدمتها السعودية وروسيا، رغم مخططات الاستنزاف التي تنفذها فرنسا على خلفية ملف الساحل، ورغم استفادتها من صفقات فلكية في السنوات الماضية أنقذت بها شركاتها من الاختفاء بمشاريع الميترو وترامواي وغيرهما.. كما أدى إعلان الجزائر تحفظاتها إزاء الدور الإيراني المتنامي في المنطقة العربية، والذي تجاوز الحدود، خاصة في اليمن ولبنان وسوريا، وانتهاج الجزائر سياسة واقعية (دوليا وإقليميا وعربيا) لـ"توضيح" خلفيات مواقفها الرافضة لتغيير عقيدتها العسكرية القائمة على عدم إقحام الجيش الوطني الشعبي في نزاعات مسلحة خارج الحدود، جعل الرباط (وقبلها السودان) تلمّح إلى إمكانية تقليص مشاركتها في التحالف العربي لإعادة الأمل في اليمن، لاعتبارات "مادية"، غذتها الصفقات الهائلة المبرمة بين الرياض وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مؤخرا.أمنية لن تتحققولأنها ليست السقطة المغربية الوحيدة تجاه البوليزاريو، فإن الجزائر لم تجد مبررا للتصعيد مع الرباط، واكتفت بتكليف الأمين العام لوزارة الخارجية، السفير نور الدين عيادي، باستدعاء السفير المغربي وطلب توضيحات من حكومة بلاده للاتهامات التي تروجها الخارجية المغربية، التي تورطها في التنسيق مع طهران في أعمال تجعل من الجزائر بلدا مخترقا من طرف المخابرات الإيرانية!فقد سبق للرباط وأن اتهمت البوليزاريو بالتحالف مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، طمعا في تصنيفها في قائمة الأمم المتحدة للتنظيمات الإرهابية.. وأعادت تدوير نفس الأسطوانة المشروخة مع تنظيم داعش الإرهابي، عندما صارت اعتداءات هذا الأخير في ليبيا حديث الإعلام الدولي والعواصم الغربية، قبل أن تأتي هذه الخرجة بعد تجديد الأمم المتحدة عهدة بعثة المينورصو في الصحراء الغربية، والمكلفة بالإشراف على ترتيبات استفتاء تقرير المصير، فضلا على إلزام الرباط بالتفاوض مع البوليزاريو تحت مظلتها، ووفقا لورقة الطريق المسلمة لمبعوث الأمين العام الأممي، هورست كوهلر، خلفا للمبعوث الأممي السابق الدبلوماسي الأمريكي كريستوفر روس.ولعل من الأمنيات المغربية التي لم تتحقق، رؤية العالم الغربي يندد بما قد يكون تعاونا إيرانيا جزائريا لتسليح وتدريب البوليزاريو الملتزم باتفاقية هيوستن لوقف إطلاق النار (1991)، والتي لعبت الجزائر في بنائها وتكريسها على الأرض دورا فاعلا، باعتبارها طرفا ملاحظا إلى جانب موريتانيا في النزاع بين البوليزاريو والمغرب، وذلك مقابل ترحيب "طبيعي" من جانب دول مجلس التعاون الخليجي والأردن بقرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، رغم موقف هذه الأخيرة غير الواضح من القضية الصحراوية.ويشار أيضا إلى أن قطع الرباط علاقاتها مع طهران، يأتي بعد استسلام نظام كوريا الشمالية للتهديد الأمريكي، فيما يخص برنامجها النووي، في خطوة تستهدف دفع إيران لتقديم تنازلات إضافية والتخلي عن بعض البنود في الاتفاق المهدد أمريكيا، وذلك لتحقيق هدف رئيسي هو رفع إيران أيديها عن نظام بشار الأسد، ولبنان التي يعتبر حزب الله، هو الحاكم فيه، دون أن ننسى اليمن، الذي دخلت الحرب فيه بين حكومة "الشرعية" بقيادة عبد ربه منصور هادي، وجماعة عبد الملك الحوثي (أنصار الله) المدعومة من طهران، عامها الرابع.كما يأتي هذا الترنح بعد هروب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون (حليف الرباط الأكبر) لـ"الاحتماء" بالرئيس الأمريكي ترامب، بحثا عن دعم خارجي لسياسته الداخلية التي صارت في مهب الريح بعد إجماع القوى الفرنسية على رفضها، وهو ما يعني تغيرا في أولويات الإيليزي التي سيتضرر منها المغرب.ولعل أهم أمنية غير قابلة للتحقيق، من جانب الجزائر، تأليب الرأي العام الوطني ضد البوليزاريو، وتحميلها كل "المصائب" التي تدفع البلاد ثمنها اقتصاديا وأمنيا وحتى سياسيا، لاسيما إذا علم أن بعض مكونات نخبة رجال الأعمال الجزائريين سبقوا إلى ذلك بتوجيه انتقادات للحكومة بسبب عقبات أمام تطوير استثماراتهم، ويتمادون في الكلام عن محاسن مناخ الاستثمار في المغرب ونجاح تغلغله في السوق الإفريقي (بفضل شراكات فرنسية)، رغم معالم الضعف الواضح للاقتصاد المغربي والتدهور المزمن للقدرة الشرائية لمواطنيه مقارنة مع باقي البلدان المغاربية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات