38serv
أعلى الله عزّ وجلّ ذِكْر الأمير عبد القادر بن محي الدّين الحسني في تاريخ البشرية المعاصر، وأصبح من رموز النّضال وأحرار العالم الّذين ناضلوا وكافحوا وجاهدوا لتنال شعوبهم الحرية الكرامة، لقد أثار كفاحه البطولي ضدّ فرنسا الغازية إعجابًا كبيرًا في كافة أنحاء العالم والدول الأوروبية.
إنّ تاريخ الأمير عبد القادر تاريخ عظيم ومشرّف، وهذه حقيقة لا يستطيع إنكارها أو التّشكيك فيها إلاّ جاحد ومكابر. فالنّاظر والمتفحّص في تاريخ الأمير عبد القادر يخرج بحقيقة واحدة هي إيمانه بالإنسان وما يمكن أن يقدّمه للإنسانية، إذ يشهد التاريخ للأمير عبد القادر مخاطرته بحياته وموقفه الشّجاع عندما تدخّل سنة 1860 في دمشق ليضع حدًا للصّراعات الطّائفية الّتي وقعت بين المسلمين والمسيحيين، حيث أسهم في إنقاذ أكثر من 15000 مسيحي. وقد مدح قيصر روسيا الأمير عبد القادر لعمله الإنساني هذا فقال: “نحن إسكندر جميع الروسيين، إلى الأمير عبد القادر: اقتضت رغبتنا أن نشهر التفافنا إليكم لشهامتكم وعملكم بما اقتضته الإنسانية، واجتهادكم في إنقاذ ألوف المسحيين من أهالي دمشق الّذين وجدوا في خطر عظيم”.قدَّم الأمير عبد القادر للإنسانية دروسًا في التّسامح والتّعايش السّلمي والأمن والاستقرار واحترام حقوق الإنسان، فهو يعتبر بحقّ رجل الإنسانية جمعاء وشعوب العالم أينما كانت وأينما وجدت، حيث اعتبر أسقف الجزائر “هنري تيسييه” الأمير عبد القادر من المؤسّسين الأوائل لفكر وثقافة التّسامح ما بين الدّيانات ولحقوق الإنسان واحترام الشّعوب والحضارات.لم يكن الأمير عبد القادر بالرّجل العادي، بل كان يفكّر بعمق ويطلق العنان لفكره إلى الأعلى فكان مفكرًا تنويريًا، بل تقدّم فكره التّنويري المرحلة الّتي كانت تعيشها الجزائر آنذاك، ورسم طريقًا لمَن يأتي بعده، لكن الّذين كانوا يحيطون به لم يستوعبوا نظرته للمستقبل، وحاولوا إجهاض محاولة بناء الدولة الجزائرية، فقد وضع الأمير عبد القادر الأسس الأولى لدولة جزائرية محدثة ومعاصرة، حيث أنشأ إدارة مهيكلة، وأقرّ مبدأ المساواة في الضّرائب، ملغيًا الامتيازات القديمة.وقد غلبتْ الصّفةُ السّياسية على الأمير عبد القادر بن محي الدّين الحسني، فلا نكاد نجد في الكتب الّتي تؤرِّخ للنّهضة العربية ذِكْرًا لهذا الأمير إلاّ وهو مرتبط بثورته ضدّ فرنسا، ومساعيه السّلمية ورحلاته السّياسية.والحقّ أنّ عبد القادر الجزائري –إلى جانب هذا كلّه– رجل فكر متبحِّر في علوم الدّنيا والدّين. وقد كانت له آراء خاصة في قضايا العقل والأخلاق واللّغة والتّصوّف، ما يجعله قمينًا بأن يُدرَج في عداد رجالات النّهضة المبكرين، على تمايزه عن جلِّهم بأنّه رجل سياسة وفكر في آن.وكان الأمير ينشد توحيد الشّعب الجزائري وتوعيته، وإلحاقه بركب العالم المتقدم، وبناء دولة تجمع بين الإسلام وحاجات العصر. وكان الهدف الأسمى والأشمل لعبد القادر هو جعل عرب وأمازيغ الجزائر شعبًا واحدًا ودعوتهم للمحافظة التّامة على دينهم، وبعث روح الوطنية فيهم، وإيقاظ كلّ قدراتهم الهامدة، سواء للحرب أو للتّجارة أو للزّراعة أو للأخلاق والتّعليم.وكان الأمير عبد القادر نموذجًا ومثالاً للخصائل الأخلاقية الرّفيعة والقتالية المحترفة، فقد أثار في نفوس جنوده وضبّاطه ومواطنيه صورًا رائعة للتّفاني والإخلاص في خدمة القيم والمبادئ، والحرص على تحرير الوطن من المحتلين الغُزاة، ويقرّ كلّ كُتّاب سيرته، بمن فيهم الفرنسيون، أنّه كان نزيهًا، وأنّه كان يملك أقصى درجات الشّعور بمكانة وقيمة الأموال العامة، وأنّه لم يعرف سوى خدمة القضية الّتي كان يعلم أنّها عادلة، ضاربًا بذلك أسمى مثال للتّفاني والشّجاعة الخارقة.ولقد اعترف خصومه القادة العسكريون بعبقريته الفذّة، وأظهروا إعجابهم بالأمير، مثل المارشال «بيجو» و«لامورسيير» و«شاغارنيه»، وقد قال الجنرال بيجو عن الأمير عبد القادر: “خصم صنديد نخشى بطشه”.ومع كلّ هذه الخصال العظيمة الّتي تميّز بها هذا القائد العظيم، فقد تعرّض لحملات تشويه مركّزة ومنظمة، واتّهموه بوحدة الوجود وتأثّره بفكر ابن عربي، وثبت بالدّليل والبُرهان بطلان الكثير ممّا نُسب إليه، وبراءته من عقيدة وحدة الوجود والانتساب إلى المحافل الماسونية.إنّ الأمير عبد القادر اشتهر بين النّاس بنزعته الإسلامية، واهتمامه بالقرآن والسُّنّة والتّصوّف السّنّي الرّشيد على نهج الشّيخ عبد القادر الجيلاني الّذي أثنى عليه علماء السّلف، من أمثال ابن تيمية وابن القيم وغيرهم كثير.إنّ حياة الأمير صفحة مفتوحة للباحثين ناصعة البياض نقية طاهرة، واتّهامات أعدائه الباطلة تتساقط أمام الحقائق الرّاسخة وتتلاشى مع الحجج الدامغة، وتذهب جفاء لأنّها زبد، وسيرته العطرة تبقى خالدة في معانيها وقيمها ومبادئها لأنّها تنفع النّاس. وإنّ مواقف الأمير عبد القادر وإنجازاته وخدماته لهذا الوطن لجديرة بالدّراسة والبحث والنّشر، فهو نموذج للقائد القدوة والمجاهد المخلص الّذي نفتقده في هذه الأيّام العصيبة الّتي تمرّ بها أمّتنا العربية والإسلامية.ومن هنا، أوصي بضرورة تكثيف الأبحاث والدّراسات والملتقيات والنّدوات المتعلّقة بهذه الشّخصية القيادية الفذّة، كما أهيب بوسائل الإعلام بأنواعها الاعتناء بهذه السِّيرة العطرة الّتي ميّزت حياة الأمير عبد القادر الجزائري، ونشرها بطرق ووسائل متنوعة، مقالات، تحقيقات، حوارات، معارض، أفلام توثيقية وسينمائية، تذكّر الأجيال بمآثر هؤلاء الرّجال العظماء الّذين رفعوا مكانة هذا الوطن الغالي والعزيز.* كلية الدراسات الإسلامية قطر
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات