أخرج الإمام الترمذي في جامعه من حديث أمِّنا عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قالت عائشة: أَهُمُ الّذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ”لا يا بنت الصّدّيق، ولكنّهم الّذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا يُقبَل منهم، أولئك الّذين يسارعون في الخيرات”.الخوف من الله طريق للأمن في الآخرة، وسبب للسّعادة في الدّارين، الخوف من الله دليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، وصفاء القلب، وطهارة النّفس، الخوف من الله سوط الله يقوِّم به الشّاردين عن بابه، ويرد به الآبقين إلى رحابه، الخوف من الله أصل كلّ خير في الدّنيا والآخرة، وكلّ قلب ليس فيه خوف من الله فهو قلب خَرِبٌ، الخوف من الله إذا سكن في القلب أحرق مواضع الشّهوات من النّفس وهذّبها وأدّبها، الخوف من الله شجرة طيّبة إذا نبت أصلها في القلب امتدّت فروعها إلى الجوارح فأتت أكلها بإذن ربّها، وأثمرت عملا صالحا، وسلوكا قويما، فتخشع الجوارح، وينكسر الفؤاد، ويرق القلب، وتزكو النّفس، وتجود العين، والعبد كلّما كان أقرب إلى ربّه كان أشدّ له خشية، وقد وصف الله الملائكة بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم}، ووصف الأنبياء بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا الله}.الخوف من الله هو الّذي عصم ابن ادم أن يقتل أخاه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ}، ومدح الله سبحانه الخائفين في كتابه فقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، أي: فلا تخافوا أولياء الشّيطان، بل اجعلوا خوفكم منّي وحدي، إن كنتم مؤمنين حقًّا، فالمقصود بهذه الجملة تشجيع المسلمين وتقويتهم، وإلهاب شعورهم، إذ الإيمان الحقّ يستلزم الخوف من الله دون سواه، والمراد بالنّهيّ عن الخوف، النّهيّ عن أسبابه الّتي من أهمّها حبّ الدّنيا وكراهية الموت، أي: خذوا بأسباب القوّة الّتي من أهمّها التّمسّك بتقوى الله، فإنّ ذلك يزيل الخوف من قلوبكم.عند الترمذي من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنّي أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السّماء (سمع لها صوت)، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ وملك واضع جبهته ساجدًا لله. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنّساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله، لوددتُ أنّي كنت شجرة تعضد”، وعند الترمذي أيضًا من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”ليس شيء أحبّ إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأمّا الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله”.ربّنا سبحانه يريد منّا أن نعرفه ونخشاه ونخافه، ولذلك نجد الكتاب الكريم مليئا بالآيات الّتي تصف لنا شدّة عذاب الله، وقوّة بطشه، وسرعة أخذه وأليم عقابه، وما أعدّ من العذاب والنّكال للكفار، وذكر لنا النّار وأحوالها وما فيها من الزقوم والضريع والحميم والسّلاسل والأغلال، وهذه المواعظ لا يتعظ بها إلاّ الخائفون من ربّهم والمشفقين من عقابه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون}، وقال: {لهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}، قال الحافظ ابن كثير: (يخوف الله عباده) إنّما يقصّ خبر هذا الكائن لا محالة ليخوّف به عباده، ولينزجروا عن المحارم والمآثم، (يا عباد فاتّقون) أي: اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي.وبيّن سبحانه أنّ ما يرسله من الآيات لتصديق الأنبياء عليهم السّلام كناقة صالح إنّما يرسله من أجل التّخويف: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، وكذلك الحال في الآيات الكونية، كالخسوف والكسوف وغيرها: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}.وهذه صور ونماذج عن الرّعيل الأوّل في خوفهم من ربّهم، فهذا الصّدّيق رضي الله عنه كان يقول: يا ليتني لم أولَد، ليت أمّي لم تلدني، يا ليتني كنتُ نِسيًا منسيًا، وهذا سيّدنا عليّ رضي الله عنه يخرج ذات يوم على أصحابه ويقول: والله لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم فلم أر اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شُعْثًا غُبْرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعزة، قد باتوا لله عزّ وجلّ سُجّدًا وقيامًا، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، تنهمر دموعهم على خدودهم فتبتل منها ثيابهم، فما بال هؤلاء قد أصبحوا غافلين؟ وكان تحت عينَي عبد الله بن العبّاس رضي الله عنهما مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان شدّاد بن أوس رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه لا يستطيع النّوم، ويقول: اللّهمّ إنّ جهنّم لا تدعني أنام، وأمّا سيّد البكائين الحسن البصري فوصفوه فقالوا: كان إذا تكلّم فكأنّه شاهد الآخرة، ثمّ جاء من الآخرة يخبر النّاس عنها، وقالوا: كان إذا جلس فكأنّما هو أسير يستعد لضرب العنق، وإذا بكى فكأنّ النّار لم تخلق إلاّ له، وكان يبكي ولمّا سُئل عن سبب بكائه قال: وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع عليّ في بعض ذنوبي فقال: افعل ما شئتَ فلا غفرتُ لك.
إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات