يَروي الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذَرّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما يروى عن ربّه تبارك وتعالى أنّه قال: ”يا عبادي إنّي حرّمتُ الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلّكم ضال إلاّ مَن هديته فاستهدوني أهدكم”.إنّ من أعظم قِيَم الدّين، ومن أسباب ازدهار الدول، ومن أعظم أسباب التّوفيق والنّجاح: العدل الّذي قامَت عليه الأرض والسّموات، وفي مقابله هناك الظّلم الّذي يكون وَبَالاً على صاحبِه في الدّنيا والآخرة، وحقّ المظلوم كفله الشّارع له ليردّ الظّلم عن نفسه، ولا يستطيع أي كان أن يمنع هذا الحقّ أو يحول بين المظلوم وبينه، مهما بلغ المظلوم من درجات الضّعف، بل مهما بلغ من الفجور والرقّة في الدِّين، إنّه الدّعاء على ظالمه: ”واتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب”، وعند الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”اتّقوا دعوة المظلوم فإنّها تصعد إلى السّماء كأنّها شرارة”، كناية عن سرعة وصولها، وعند التّرمذي: ”ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصّائم حتّى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السّماء ويقول الربّ: وعزّتي لأنْصُرَنّك ولو بعد حين”.لقد سطّر التّاريخ صورًا وشواهد حيّة على استجابة دعوة المظلوم، فقد دعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على أبي سَعدة عندما ظلمه بالوشاية به إلى عمر، واتّهمه بأنّه لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، فقال سعد: أمَا والله لأدعونّ بثلاث: ”اللّهمّ إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسُمعة فأطلّ عمره، وأطل فقره، وعرّضه بالفتن”. وكان بعد إذا سُئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وشوهد بعد كبره قد سقط حاجباه على عينيه، وكان يتعرّض للجواري في الطرق.ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت أويس حين اتّهمته بأخذ شيء من أرضها، فقال: ”اللّهمّ إن كانت كاذبة فأعْمِ بصرها واجعل ميتتها في هذه الأرض”. قال عروة بن الزبير: فوالله لقد عميَ بصرها حتّى رأيتها امرأة مسنّة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر، وكانت تمشي في أحد الأيّام فسقطت فيه، وكان ذلك قبرها.فاحذر أخي الفاضل أن تكون ظالمًا لئلاّ تتعرَّض لدعوة تجاوز الحجب وأنتَ عنها غافل، وردّ في السِّير أنّ الفضل بن خالد البرمكي كان يقول لوالده وهما في السجن: يا أبت بعد العزّ ونفوذ الكلمة نصير إلى هذه الحال! فقال له والده: يا ولدي دعوة مظلوم سرت في ليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}.تُرى كم هي صور الظّلم الّتي تعشعش في أوساط المجتمع، وكم من مظلوم هضم حقّه، أو أخذ ملكه، أو اتّهم بما ليس فيه، ولعلّ أعظم أنواع الظّلم ظُلم الوالدين بعقوقهما، ويا لَلكارثة، ويا لَلهول عندما تجتمع دعوة مظلوم ووالد، ومن الظّلم كذلك أخذ أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، ومن الظّلم أيضًا جحد الدَّيْن أو المماطلة به مع الغنى والجدة: ”لَيُّ الواجد ظلم، يُحِلُّ عِرضَه وعقوبته”.ومن أنواع الظّلم ظلم الأجراء بعدم إعطائهم حقوقهم: ”ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حُرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”، ومن الظّلم التعدّي على أملاك الغير من أراض وعقار: ”مَن أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طُوِّقه من سبع أراضين يوم القيامة”، ومن الظّلم الّذي ينبغي الحذر منه تعمّد إعنات المسلمين، وتأخير منافعهم، والإضرار بهم: ”اللّهمّ مَن ولي مِن أمر المسلمين شيئًا فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومن وليَ من أمر أمّتي شيئًا فرفق بهم فارْفُقْ به”.ومن أخطر أنواع الظّلم اتّهام النّيات، والخوض في أعراض المسلمين بلا زمام ولا خطام، وخاصة العلماء والدّعاة والمصلحين، قال الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي وفّقنا الله وإيّاك لمرضاته، وجعلنا ممّن يخشاه ويتّقيه حقّ تُقاته، أنّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأنّ مَن أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْبِ ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات