طلعت المؤسسة المسرحية الجزائرية من رحم الحركة الوطنية وثورة التحرير الكبرى. طلعت معبأة بأحاسيس وعواطف النضال ورغبة التأسيس والتطلع لاستشراف آفاق جديدة لمجتمع جديد ومهام وطنية جديدة. حاملة مهام التبشير بتلك الأحلام، وببناء ثقافة مواكبة وموجهة ومعبئة للجماهير المحتضنة لأفراح النصر بالاستقلال والمشحونة برصاص الجنود المنتصرين النازلين من ساعات الوغى، الجماهير الراقصة على أصوات زغاريد النسوة التي امتلأت بهن الساحات. كانت رؤاهم كبيرة دون شك، وكانت خططهم عديدة أيضا، وكان همّهم الأكبر الذي يملأهم هو كيف يكون المسرح مسرحا للثورة المنتصرة وللشعب الذي يبني بلدا وذاكرة تعرضت للتشويه مائة وثلاثين سنة.ويلاحظ الدارسون والمتتبعون بأن مرسوم التأميم ذلك عام 1963 حدد مهام المسرح الوطني وأولى مهمة التكوين عناية خاصة من بين تلك المهام، من خلال التأكيد على الدور الذي يضطلع به للدفع بالمؤسسة المسرحية باتجاه القدرة على مواجهة مهام الإبداع والنوعية والجماهيرية.غير أن تلك المهام لم يتم التكفل بها ولم تأخذ ما تستحقه من العناية اللازمة من قِبل السلطات العمومية، وهذا رغم ما قدمه معهد برج الكيفان وبعض البعثات إلى الخارج من نتائج ظلت المثال الفريد المقتضب.كيف يمكن اليوم في ظل غياب معاهد للتمثيل ولمختلف التخصصات العلمية الفنية التي تدخل في صميم صناعة العرض، بما في ذلك الصناعات الفنية التي تتطلبها عروض مسرح الطفل لتحقيق فرجة نوعية بجماليات معاصرة متطورة.كيف يمكن اليوم توجيه نقد لاذع لمؤسسات مسرحية ترتكز على ممثلين هواة صاروا محترفين بقرار إداري، وليس بشهادات عالية في التخصص العلمي والفني؟ وإن كان ذلك مبررا في بداية الأمر فلم يعد له بعد ذلك أي مبرر. كيف يمكن قبول شخص يحمل صفة مخرج مسرحي نالها بقرار إداري وليس بشهادة يمنحها معهد مسرحي للفنون التميلية والدرامية وصناعات العرض والفرجة؟بكل تأكيد لا يمكن أن يقبل المنطق هذا، ولكن الواقع اليوم في الجزائر هو هذا بالضبط ماعدا استتثناءات لا يصل عددها أصابع اليدين. ومع هذا يوجد في الجزائر مؤسسات مسرحية وطنية ويوجد مخرجون هواة “احترفوا” بالأقدمية وبالتكوين العصامي، وحملوا على عاتقهم مهام الإنتاج المسرحي، كما حملوا في صدورهم القناعة بالترقية الإبداعية للمسرح.كيف يمكن للنقد أن يكون نقدا أولا وأن يكون موضوعيا ثانيا وهو يواجه مثل هذه المعطيات؟ وبالتالي كيف يمكن تقييم المسار الإبداعي للمسارح الوطنية وسط محيط الهواة والهواة المحترفين إداريا؟ كل هذا وسط أكاذيب كبيرة إسمها الجوائز المهرجناتية التي تمنحا لجان للحكم والتحكيم، والتي زرعت كثيرا من الوهم وغررت بما لا يحصى من المغرر بهم.أموال كثيرة صرفت وتصرف في كل المؤسسات، مسرحية وشبابية وجمعيات ولجان ولائية ووطنية ودوائر، تنتسب جميعها للثقافة والفن والإبداع وهلم جرا، ولكن سمتها العبث بقيم الفنون الدرامية لانعدام المعايير والمعرفة والتكوين.ليست المسارح وحدها من تحظى بالدعم، عدد كبير من المؤسسات التي ليست بالضرورة تحت وصاية وزارة الثقافة تصرف أموالا تحت غطاء المسرح والإنتاج المسرحي تفوق أحيانا ما تصرفه المؤسسات المسرحية، ولكن وعندما يتعلق الأمر بالتقييم تلتفت الوجوه في تحول بمائة وثمانين درجة باتجاه المسارح الوطنية ليحسن الجميع توجيه النقد البليغ وتركيز التسديد بطلقات تريد أن تكون قاتلة.فكيف يمكن أن نقيم في ظل غياب التكوين العمود الفقري لتحقيق النوعية؟ وفي ظل غياب مراكز عديدة عليها أن تسهم في البحث والترشيد وإيجاد الحلول القريبة المدى والبعيدة خاصة.مدير المسرح الجهوي لقسنطينة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات