كلما قرأت قصيدة “العُشب” للأمريكي تشارلز بوكوفسكي (1920- 1994)، هذا الشاعر والروائي الماجن والملعون، وبالأخص البيت الأول منها “أفقتُ على الجفاف وكانت السراخس ميتة”، أشعر بالقرب منه. بل إنه شعور وإحساس يتجاوزان القرب. بوكوفسكي من المبدعين الذين خذلهم العالم، فتسلل راضيا وسط الردهات المظلمة في أكثر من مرة بعد أن حاصرته المأساة، فانقلب جهة الهامش، وامتهن مهنا بالكاد تسد مداخيلها رمق العيش. حتى صوته المبحوح جعله يبدو مختلفا ومنحرفا، في هيئة رجل متشرد لا يعبر إطلاقا عن نمط الحياة الأمريكية، فما بالك الرخاء ورغد العيش. بوكوفسكي (المدعو بُوك) لم ينل قسطا من كل هذا، بل حذر الأمريكيين من المثقفين فقال في قصيدته الشهيرة “عبقرية الحشود”، “احذروا أولئك الذين يقرأون الكتب دائما”، فوصفته الأوساط الثقافية الرسمية جراء مثل هذه المواقف بالكاتب “التخريبي”، وبغير المقبول اجتماعيا، فهو إنسان يهوى الفضائح (أشهرها مشاركته في حصة “أبوستروف” للفرنسي بيرنارد بيرو، وهو في حالة متقدمة من السكر على المباشر، وغادر الحصة وهو يردد كلاما بذيئا). لقد نبذته أمريكا المحافظة والبيوريتانية، وتجسس عليه رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي منذ 1968، وحرروا مئات التقارير عن تحركاته.وتكمن قوة بوكوفسكي، مثلما يبدو في روايته الشهيرة “مكتب البريد” (ترجمتها دار الجمل السنة الماضية للعربية) في قدرته على إيراد التناقض بين الذات والواقع، وصراعه اليوميّ بين المعيش والحلم، بين الصدق والكذب، بين المغامرة والتقاعس (وهو بالمناسبة مثل المصري ألبير قصيري من عشاق الكسل)، وذلك عبر انطلاقه من سيرته الذاتيّة التي تشكّل محور رواياته، وبالأخص هذه الرواية “مكتب البريد”.يعكس عالم بوكوفسكي الروائي درجة الفظاظة الموجودة في الحياة البشرية، وذلك بحجم فظاظة الواقع الذي عاش بين ظهرانيه على مدار عقود رحلته الأدبية التي اقتربت من أكثر الأماكن انحرافا، من بيوت الدعارة والحانات الليلية والباغيات والمغامرات الجنسية والثمالة والكسل وفكرة الموت والفوضى المستعرة ورداءة الواقع.أما بوكوفسكي شاعرا، فكان يظهر كصاحب أذن مرهفة تلتقط الكلام المحكي الطبيعي والعفوي بسهولة، وتجعل منه شعرا مؤثرا. وله قدرة عجيبة على المزج بين مآسيه ومآسي الناس من حوله، إضافة لبراعته في رسم تفاصيل الحياة اليومية على شكل سرديات درامية تتخلل قصائده. وجاء في إحدى قصائده التي لم أعد أذكر عنوانها:بعد أسبوعين كنت جالسا في مكتب بلدية المدينةنعسان في الشمس كأنني الذبابة الكبيرة التي تحط على مرفقيوبين الحين والآخر تأخذني إلى اجتماع للمجلسوكنت أصغي بكل جدية كأنني كنت أعرف ما يجريكأنني كنت أعرف كيف كانت الموارد المالية لبلدة نصف حمارة تُجردشغلته طيلة مساره الأدبي مواضيع شائكة، ظلت ثابتة مثل اللغة وفعل الكتابة والإدمان والنساء (لم يكن جنتلمانا البتة مع النساء، فقد كان عنيفا وفظا معهن، كما نقرأ في روايته الشهيرة “نساء” التي قال النقاد إنه يجب قراءتها بعد سن الأربعين، لأن قراءتها دون ذلك يعطي تصورا مخيفا للحياة).ومثل رواد جيل “البيت” (بوروز، كرواك، وجنسبرغ) قضى بوكوفسكي (بعد مراهقة انطوائية) قرابة 20 عاما وهو يجوب الولايات المتحدة متنقلا بين ساحليها الشرقي والغربي ليمارس أعمالا شتى. توقف خلالها عن الكتابة الأدبية مدة 20 عاما قضاها، يعيش الحياة ويراكم التجارب حتى تكون كتاباتها مرادفة لمقولة جون شتاينبك الشهيرة “الروائي الأمريكي هو الذي يراكم التجارب، وبحوزته قلم رصاص وكناش صغير”. إن الأدب تجربة كما يقول ارسكين كالدوين.ثم إن الصدق أثناء الكتابة هي ميزة بوكوفسكي، فهو القائل:إذا لم تخرج منفجرةً منك،برغم كل شيءفلا تفعلها.إذا لم تخرج منك دون سؤال،من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائكفلا تفعلها.ترك بوكوفسكي أدبا منغمسا في الحياة. وجاءت كتبه الخمسون متأججة مليئة بسرد الحياة، كما هي بلا رتوشات. تتأرجح بين الرقة والقسوة. عكست ما هو عابر ومبتذل، لكن الأدب أعطى أعماله قدرة على الخلود. فلا أحد قادر على نسيان بوكوفسكي أو أستاذه هنري ميللر.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات