شهر رمضان فرصة لمَن فرّط وقصّر، وتعدّى على حدود ربّه، فرصة لمَن كذب وزوّر وخان، وتنصّل من المسؤولية، فرصة لمَن كان فعله وسلوكه سببًا لفساد المجتمع، وانتشار الرّذائل، وترويع الآمنين، وتخويف النّاس، فالمحروم في رمضان من حُرم الخير، رمضان فرصة عظيمة لتقوية الإيمان، والتزوُّد من الطّاعات، والتّوبة النّصوح لربّ الأرض والسّماوات، والنّدم على ما فات من التّقصير والهفوات في حقّ النّفس والأهل والجيران والأرحام.ينبغي أن يكون هذا رمضان مختلفًا عن غيره ممّا فات، حتّى لا يستمرّ التّفريط والتّقصير، وينتقل الإنسان إلى الدّار الآخرة وليس له من العمل الصّالح ما يبلغه رضوان مولاه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.وينبغي لمَن أراد أن يستفيد من رمضان أن يركّز على أولويات من الأقوال والأعمال، ويعزم على القيام بها، ويربّي نفسه عليها حتّى تستقيم حياته ويسعد في أخراه، فهو شهر الخيرات والنّفحات، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يبشّر أصحابه بقدومه فيقول: ”قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنّة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشّياطين، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرم خيرَها فقد حُرم”.وأهم الأولويات الّتي يجب القيام بها هي التّوبة من الذّنوب، وردّ الحقوق والمظالم إلى أهلها، والعزم على عدم العودة إلى ذلك، فالتّوبة هي شعار المتّقين، ودأب الصّالحين، يقول الحبيب صلّى لله عليه وسلّم: ”يا أيّها النّاس توبوا إلى الله، فإنّي أتوب إلى الله في اليوم مائة مرّة”، ويقول الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء: طوبى لمَن إذا مات ماتَت معه ذنوبه، والويل الطويل لمَن يموت وتبقى ذنوبه، مائة سنة ومائتي سنة أو أكثر، يعذب بها في قبره، ويسأل عنها إلى آخر انقراضها، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، أي: نكتب ما أخروه من آثار أعمالهم، كما نكتب ما قدّموه.ومن الأولويات في رمضان المحافظة على الصّلاة جماعة، والإكثار من القرآن قراءة وفهمًا، فكم من مسلم هجر كتاب ربّه فتحوّلَت حياته إلى تعاسة، وفقد الطّمأنينة من قلبه، فها هو رمضان فرصة لتجديد العهد مع كتاب ربّك، اجعل منه وردًا يوميًا، نهارًا وليلاً، فرمضان موسم مدارسة القرآن، فقد كان المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن.وينبغي له كذلك أن يحافظ على صلاة التّراويح وقيام اللّيل لما فيهما من الأجر والثّواب، والفوائد الرّوحية، والصحّة الجسدية، جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ شهدتُ أن لا إله إلاّ الله، وأنّك رسول الله، وصلّيتُ الصّلوات الخمس، وصُمت الشّهر، وقمتُ رمضان، وآتيتُ الزّكاة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”مَن مات على هذا كان من الصّدّيقين والشّهداء”، فكم نحن محتاجون إلى مناجاة صادقة ننال بها رضوان خالقنا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.ومن أعمال المسلم في رمضان الإنفاق ممّا أعطاه الله، قلَّ منه أو كثر، كلّ حسب طاقته: {مَنْ ذا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً}، فكم من بطون جائعة، وكم من محتاج ويتيم ومسكين ينتظر مَن يقف بجانبه ويمدّ إليه يد العون، عند البخاري يقول ابن عبّاس رضي الله عنهما: ”كان رسول الله أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن، فلَرسول الله أجود بالخير من الرّيح المُرسلة”.إضافة إلى ذلك استغلال الأوقات بالعلم النّافع والعمل الصّالح، والانضباط في أخلاقنا وسلوكنا في البيت والشّارع، فالصّوم حريّ بأن يهذّب النّفوس، فهو مدرسة الأخلاق ”والصّيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إنّي امرؤ صائم”، وليس هذا الامتثال جبنًا ولا ضعفًا ولا خَوَرًا، بل هو عظمة وسموّ يربّي الإسلام عليها أتباعه، ومن ذلك الانضباط في العمل والوظيفة، ورعاية مصالح الأمّة. فالصّيام ليس مناسبة للنّوم والكسل والتأخّر عن الدّوام، والتّقصير في الأعمال والتغيّب وتعطيل مصالح النّاس.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات