+ -

 وجدت المقاربة التي قدمتها الدكتورة خولة طالب الابراهميي خلال مشاركتها منذ بضعة أيام في الندوة التكريمية حول الروائية الراحلة أسيا جبار بالمعهد الفرنسي بالجزائر العاصمة، بخصوص “انقلاباتها”، أو ما أسميه بتحولاتها بشأن علاقتها باللغة الفرنسية، في غاية الأهمية والصواب، بالأخص حينما ذكرت الدكتورة خولة أنها انطلقت في أعمالها الروائية الأولى من ما يعادل الاستخبار في الموسيقى الأندلسية، لما كتبت بلغة فرنسية مدرسية صارمة خالية من التأثيرات اللغوية المحلية والمحكية، وبرز ذلك في روايات “العطش” (1957) و“المتلهفون” (1958) و”أبناء العالم الجديد” (1962)، وصولا إلى رواية “القبرات الساذجة” التي نشرتها سنة 1967، لكنها انتقلت بعد ذلك إلى لغة متحررة من القيود الكلاسيكية للغة الفرنسية لما عادت للكتابة الأدبية بنشر مجموعة قصصية بعنوان “نساء الجزائر في بيوتهن” (1980)، حيث استعملت اللغة الفرنسية هذه المرة كأداة للتعبير عن المجتمع بعيدا عن ذاتها كما برز على شكل اعتراف في رباعيتها الأولى. ومن هنا تشكّلت بوادر تمرّد آسيا جبار عن المنظومة الفرنسية، وبرز لديها خيار “نقد الخطاب الكولونيالي”، إذ تعتبر مجموعة “نساء الجزائر في بيوتهن” ردا على لوحة “أوجين دولاكروا” الاستشراقية “نساء الجزائر في بيوتهن”، والتي رسمها لما رافق الحملة العسكرية سنة 1832. وتقدّم لوحة دولاكروا “نساء الجزائر” في شكل حريم، وجسد مُغري يجب “غزوه واحتلاله”، بعد اشتهائه، كخطوة أولى نحو غزو الأرض. وشبهت خولة طالب الابراهيمي هذا الانتقال بالصدر والبطايحي، وهو المستوى الثاني في الموسيقى الأندلسية، والذي يمتاز باستعمال لغة أقل كلاسيكية مقارنة بالاستخبار. وبالفعل استحضرت الروائية الراحلة في أعمالها التي نشرتها خلال الثمانينيات مسألتا التاريخ والهوية، فأكدت تمردها نهائيا على المنظومة الفرنسية في روايتها “الحب..الفنتازيا” (1985) لما فضحت تجاوزات الاستعمار الفرنسي خلال احتلال الجزائر، وقدمت نقدا للخطاب الكولونيالي، وتحدثت عن مجازر الإبادة التي ارتكبها في حق الجزائريين، منها مجزرة “أولاد الرياح” الشهيرة التي ارتكبها العقيد بليسيي يوم 18 جوان 1845. أصبحت اللغة الفرنسية لدى آسيا جبار أكثر تحررا من المركزية الفرنسية، وتعني التماهي مع خطابات تفكيك الهيمنة الاستعمارية، وإنشاء ما يسمى “اللغة المُقاومة”. وبالفعل أحدثت آسيا جبار “انقلابا” ثالثا في مسارها الإبداعي، في إشارة من الدكتورة خولة إلى المستوى الثالث من مستويات الموسيقى الأندلسية، وهو “الانقلاب”، وقدّمت لغة فرنسية أكثر تحررا من القيود الفرنسية. ويجب التنبيه إلى أنها أقدمت خلال هذه الفترة على قراءة اللغة العربية (التي تعلمت أبجدياتها في المدرسة القرآنية في سن مبكّرة) فكتبت روايتها الشهيرة “بعيدا عن المدينة” (1991) متكئة على تاريخ الطبري، وأعطت للغة الفرنسية “صوتا وريتما مغايرا جراء احتكاكها بالغربية”، فجاءت روايتها “واسع هو السجن” (1995) و”اختفاء اللغة الفرنسية” (2003) بلغة أقرب إلى المحكي المحلي، لما أدرجت اللغات الأخرى التي تزخر بها الجزائر في لغة الحوار، بل وحتى في لغة الحكي.وعليه يجب أن نتوجه إلى انتقال آسيا جبار إلى السينما لكي نفهم انعكاسات هذا التحول (الانقلاب) على علاقتها بلغة الكتابة، فقد اكتشفت بعد عشر سنوات من الصوم على الكتابة الإبداعية، مستوى آخر من اللغة هو المستوى المحكي والمروي، أو ما تسميه “لغة الآلام” في إشارة منها إلى اللغة البربرية لنساء جبل شنوة.بعد كل هذا أجد نفسي أسأل.. من هو الكاتب؟ هو ذلك الكائن الذي يسكن بين اللغات ويتعايش معها.. هو كائن رحالة بين اللغات.. وفي حالة الكاتب المغاربي أجد أن آسيا جبار تعبرها (من العُبور) تأثيرات تاريخية مختلفة من الوضعية الكولونيالية إلى ما بعدها.. إذن هناك لغات متعددة. وهذا يشكل ترحال من لغة إلى أخرى على خطى المبدعين الكبار الذين لم يكتبوا بلغتهم الأم (فرانز كافكا، صمويل بيكت، إيميل سيوران وأوجين يونيسكو...الخ)، فتجاوزا الحدود المرسومة (في إشارة هنا لكتاب فليكس غتَاري وجيل دولوز حول كافكا) إلى حدود مفتوحة. وبالعودة إلى عبد الكبير خطيبي، فإن للأدب المغاربي (المكتوب بالفرنسية) جذور (لغة واحدة) لكن له تفرعات في الوقت نفسه، تظهر على شكل أغصان تخضع للرياح التي تهب.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات