الكثير من أفعال السلطة صارت تفجر ألوانا من الجدل، ولكن الجدل الذي فجرته رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة يوم النصر غير مسبوق، بل إن الأمر وصل حد أن الرئيس –السلطة! سحب فقرة وردت فعلا في الرسالة الذي كانت قد عممتها وكالة الأنباء الرسمية. لقد قرأت الرسالة في نسختيها، الفرنسية والعربية، وهالني وأحزنني أيما حزن، أن تغفل الرسالة تسمية الاستعمار باسمه، لقد صار الاستعمار في هذه الرسالة نكرة، ومضى زمن كان يسمى “الاستعمار الفرنسي الغاشم”، هل هو نسيان أم تناسي، هل هو فعل إرادي أم تقصير سياسي؟! في هذه الرسالة أمران هامان:أولا: الانطباع الذي تشكل عن ممارسة السلطة وما بلغته من انحطاط مخيف. وهنا لا أعتقد أن المهم هو معرفة إن كان الرئيس هو من وجه ومن اعتمد نص الرسالة، لأنها في كل الأحوال فعل سياسي، لا يمكن أن يكون مسؤولا عنه إلا الرئيس، وإن لم يكن الأمر كذلك، فمعنى ذلك أن هناك خرق للدستور، وأن هناك “أوصياء على العرش” (régents)، يمارسون سلطة الرئيس. الجدل الذي دار حول الرسالة فتح باب الشك في أن أمور قمة هرم السلطة في أزمة خانقة. وهذا أمر تكرر وأكد أن الإدارة ليست بمستوى رئاسة.ثانيا: المنطق السياسي العام الذي اعتمد في الرسالة وفي يوم النصر. وهنا أقول: الرئيس بوتفليقة لا يميز، على مستوى الخطاب الرسمي، بين الدولة والسلطة، وهو ليس الوحيد، فهناك انطباع قوي أن السلطة ظلت تتعمد هذا الخلط بين المصطلحين والمفهومين. الدولة ليست السلطة والدولة ليست النظام والدولة ليست الرئيس وليست الجيش، الدولة تحتوي على السلطة وعلى النظام وعلى الرئيس والرئاسة وعلى مؤسسات أخرى، وتحتوي، من المفترض، على الشعب وعلى الأحزاب السياسية، كل الأحزاب السياسية بما يعني كل النخب وكل القناعات وكل المصالح. هذا الخلط تعبير عن نظرة أركائيكية للدولة وهي نظرة مُعطِّلة كانت وبالا على أمم كثيرة، وتمكنت الكثير منها من تجاوزها بجعل الدولة فوق السلطة، كل سلطة. هذا المنطق، أيها الرئيس، الذي نضحت به رسالتك أو رسالة الكتبة والأوصياء (régents) على عرشك، هو منطق ما قبل الدولة وليس فقط ما قبل الدولة الحديثة، هو منطق وصاية، وليس منطق دولة، منطق الحكم المطلق وليس منطق مؤسسات، منطق “من ليس معي فهو عدوي وعدو الشعب، وهو الضلال والمنكر”، وهو منطق معاكس للديمقراطية. حماية الدولة، كما ورد أحيانا في رسالتك، مهمة كل المواطنين وليس السلطة فقط، ولكن المشكلة هي عندما تعتقد سلطة أنها هي فقط الدولة، وعندما تضع الدولة تحت وصايتها، وعندما تهتم بالدولة الجهاز وليس بالناس، خاصة الذين يعترضون ويحتجون. أما إن كان الأمر متصلا بنزاعات عُصبية مصلحية داخل دواليب السلطة فقط، فإن تعميمها في رسالة للرئيس مؤشر خطير على وضع سياسي غير مسبوق أبدا. الأمور تصل هذا المستوى من الغموض ومن الانحطاط والرداءة، عندما تتعمد سلطة تجاهل أن المشكلة مشكلة شرعية حكم، وليس شرعية الرئيس فقط، وتجاهل أن الإرادة الحرة للأمة والمواطنين ما زالت “مستعمرة”، وأن هناك مشكلة نظام سياسي تجاوزه الزمن، وصار لا ينتج إلا الأزمات تلو الأزمات، بل ووصل حد الافتقاد للقدرة على الحركة، في إطار قوانين ومعايير (normes) وقواعد (règles). السلطة تواجه اليوم اعتراض الكثير من الجزائريين، وليس فقط “أدعياء السياسة!” (أدعياء السياسة هم من السلطة ومن الموالاة أكثر من المعارضة)، على الكثير من قراراتها واعتراضهم على سياساتها وعلى تصرفات مسؤوليها على مختلف المستويات، والرسالة لم تكن متجهة إلى جمع الجزائريين، ولا إلى توفير شروط بناء توافق وطني، ولم تكن متجهة حتى باتجاه منطق المصالحة، وأقل من ذلك إلى إنقاذ المشروع الوطني المثخن بجراح ممارسات السلطة، إنها اتجهت إلى محاكمة المعترضين والناقدين، وإلى اعتبار كل المسؤولين منزهين وغيرهم هادمين لما يبنيه الأولون! الرسالة خطيرة جدا وفيها من التهديد ما ينبئ بزمن أفضح من تقييد الحريات المقيدة أصلا. إنها تقول: “.. نحن الآن، أمام حالة اضطرار إلى إعمال الحزم والصرامة، كل الحزم والصرامة، في الدفاع عن هذه الدولة. فهو واجب دستوري، واجب قانوني، واجب شرعي وأخلاقي لا يجوز لا تأجيله، ولا التقاعس عنه..” أين هو الحزم والصرامة تجاه الفساد والإفساد وليس ضد حرية التعبير، أين هو الحزم ضد نهب المال العام وتبديده وأين هو الحزم والصرامة في إخراج البلاد من حال الانسداد ومن الأزمة التي دامت ربع قرن؟[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات