38serv

+ -

ليس هناك دين أو نظام كرَّم الأم وأعلى من شأنها كما فعل الدّين الإسلامي الذي جعل برّها من أصول الفضائل، كما جعل حقّها أعظم من حقّ الأب لما تحمّلته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتّربية، وهذا ما يُقرّره القرآن ويُكرّره في أكثر من سورةٍ ليثبِّته في أذهان الأبناء ونفوسهم. ذلك في مثل قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير}، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَرْهاً وَوَضَعَتْهُ كَرْهاً، وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}.جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله: مَن أحقُّ النّاس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: “أمّك”، قال: ثمّ من؟ قال: “أمّك”، قال: ثمّ من؟ قال: “أمّك”، قال: ثمّ من؟ قال: “أبوك”. ويروي البزار أنّ رجلاً كان بالطّواف حاملاً أمّه يطوف بها، فسأل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هل أدّيتُ حقّها؟ قال: “لا، ولا بزفرة واحدة”!.. أي من زفرات الطّلق والوضع ونحوها.وبرّ الأم يعني: إحسان عشرتها وتوقيرها وخفض الجناح لها وطاعتها في غير المعصية، والتماس رضاها في كلّ أمر، حتّى الجهاد، إذا كان فرض كفاية لا يجوز إلاّ بإذنها، لأنّ برّها ضرب من الجهاد.لذا ينبغي التّنبيه إلى مكانة الأم والتّذكير بواجب الأولاد والمجتمع تجاهها، وليتقّ الأولاد الله وليقدِّروا للأم حقَّها وبرَّها، ولينتهين أقوام عن عقوق أمّهاتهم قبل أن تحلّ بهم عقوبة الله وقارعته، ففي الصّحيحين يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمّهات”، وعند أحمد وابن ماجه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “إنّ الله يوصيكم في أمّهاتكم” قالها ثلاثاً، وعند الترمذي في جامعه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “إذا فعلت أمّتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء.. وذكر منها: وأطاع الرّجل زوجته وعقَّ أمّه”.إنّ للأم مكانة غفل عنها جُلّ النّاس بسبب ضعف الوازع الدّيني المنجي من الوقوع في الإثم والمغبَّة. وعلينا جميعاً أن نعلم أنّ الأم خير حانية، لطيفة المعشر، تحتمل الجفوة وخشونة القول، تعفو وتصفح قبل أن يُطلب منها العفو أو الصّفح، حملت جنينها في بطنها تسعة أشهر، يزيدها بنموه ضعفاً، ويحمِّلها فوق ما تطيق عناء، وهي ضعيفة الجسم، واهنة القوى، تقاسي مرارة القيء والوحم، تحمله وهناً على وهن، تفرح بحركته، وتقلق بسكونه، ثمّ تأتي ساعة خروجه فتعاني ما تعاني من مخاضها، حتّى تكاد تيأس من حياتها، ثمّ لا يكاد الجنين يخرج في بعض الأحايين إلاً قسراً وإرغاماً، فيمزق اللّحم، أو تبقر البطن، فإذا ما أبصرته إلى جانبها نسيت آلامها، وكأنّ شيئاً لم يكن إذا انقضى، ثمّ تعلِّق آمالها عليه، فترى فيه بهجة الحياة وسرورها، ثمّ تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، تغذِّيه بصحتها، وتنميه بهزالها، تخاف عليه رقّة النّسيم، وتؤْثِره على نفسها بالغذاء والنّوم والرّاحة، تقاسي في إرضاعه وفطامه وتربيته ما ينسيها آلام حملها ومخاضها.يقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء:23-24.إنّ المرأة بوصفها أماً في الإسلام فلها غاية خاصة وشأن جليل وفضل عظيم ووظيفة سامية ورسالة خطيرة، فهي المدرسة الأولى الخالدة والقدوة المباشرة الملازمة الدّائبة، وهي للأسرة مثال القلب للجسم، والأسرة هي أساس المجتمع.ومن رعاية الإسلام للأمومة وحقّها وعواطفها: أنّه جعل الأم المطلقة أحقّ بحضانة أولادها، وأولى بهم من الأب. قالت امرأة: يا رسول الله، إنّ ابني هذا، كان: بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإنّ أباه طلّقني، وأراد أن ينتزعه منّي! فقال لها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “أنتِ أحقّ به ما لم تنكحي”. والأمّ الّتي عنى بها الإسلام كلّ هذه العناية، وقرّر لها كلّ هذه الحقوق، عليها واجب: أن تحسن تربية أبنائها، فتغرس فيهم الفضائل، وتبغضهم في الرّذائل، وتعوّدهم طاعة الله، وتشجّعهم على العمل والجدّ والاجتهاد وطلب العُلى والبُعد عن الدّعَة والكسل والخمول.إنّ دور الأمّ عظيم في الأسرة والمجتمع، فهي مربّية الأجيال وحاضنتهم، فإذا قامت بدورها في التّربية العقدية والتعبّدية والأخلاقية والجسمية صحّ الأبناء، وبتعاون الأمهات كلّهنّ على تربية أبناء المجتمع يصلح المجتمع.ومن نظر في تاريخ العلماء العظام وجد أنّ كثيراً منهم كانت وراءهم أمّهات طيّبات صالحات، كان لهنّ أكبر الأثر في تعليمهم، ومن أمثلة ذلك أمّهات ربيعة ومالك والشّافعي وسفيان وغيرهم، ومن توجيهات القرآن: أنّه وضع أمام المؤمنين والمؤمنات أمثله فارعة لأمّهات صالحات كان لهنّ أثر ومكان في تاريخ الإيمان، منهنّ سيّدتنا مريم ابنة عمران أمّ المسيح عيسى، جعلها القرآن آية في الطّهر والقنوت لله والتّصديق بكلماته: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.*كلية الدراسات الإسلامية

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات