يبدو أن العلم ضاق ذرعا من هذا المكان الذي فقد هيبته ووقاره في الوقت الراهن، فقرر أن يشد رحاله، ويترك هذه المدرسة لمن أراد أن يبيعها في المزاد العلني بعد أن تحوّلت إلى مسرح تمارس فيه الجريمة بإتقان.. جريمة لم يكن لها أن تلعب أدوارها عبر هذا الفضاء الجميل، لو لم تجده قد أصبح مهيئا لها في وقت بات الكل منشغلا عن حماية هذا الحرم المقدس.لقد تعبت مدرستنا حتى النخاع، ولم تجد إلى حد الساعة الطبيب الذي يستطيع أن يشخص داءها، فيعطيها الدواء الشافي لهذه العلل التي راحت تنخر عظامها منذ أمد طويل، لأن هناك من ركب رأسه، وظن نفسه عرّاف اليمامة، فقدّم لها من الحلول ما جعل البراءة تمارس القتل في حرمها بطريقة أثارت حالة من السخط والتذمر في نفس كل واحد منا.لقد تعبت مدرستنا عندما دخلت مرحلة المنافسة غير المشروعة من قبل أخواتها من المدارس التي اشتهرت بترويج بضاعتها الكاسدة لهؤلاء الطلبة الذين باتوا في زمن الرداءة يتنافسون على مقاعدها ليلا، وهم يعلمون أن مروّجها ليس سوى تاجر شاطر عرف كيف يستغل سذاجتهم. ألا يعد صاحبنا هذا الذي يشتغل هنا وهناك على حساب هؤلاء “الغلابى” واحدا من هؤلاء الذين أسهموا في رداءة مدرستنا بهذا الحجم؟لم يعد العلم يمارس حقه الطبيعي في مدرستنا بعد أن تحولت إلى ثكنة عسكرية، يعيش فيها حشد كبير من الطلبة الذين لا يملكون في فترة الخدمة غير الطاعة والولاء لهذا القائد الذي يتحكم في زمام أمورهم وفق ما يقتضيه القانون، ولم تعد هذه المدرسة في خضم هذه التحولات الجديدة قبلة تمارس فيها شعائر المواطنة والحرية والفكر والإبداع، بل أمست مسرحا للعنف والرقص على”الواي واي”، ولم يستطيع عقلاء المدينة أن يجدوا تفسيرا مقنعا لهذه الفوضى الخلاقة التي فرضت على مدرستنا.لم تعد مدرستنا قادرة على استيعاب هذا العدد الضخم من الطلبة على مستوى القسم الواحد، لقد فاق عددهم الخيال، نتيجة لهذه السياسة التي تسمح للجميع بالبقاء في هذه الثكنة التي باتت تفقد شيئا فشيئا كل مقومات التربية الحديثة، والتي كانت من قبل تعتمد أساسا في فلسفتها على الشعر والموسيقى والمسرح والمسابقات الفكرية والمعارض، وغيرها من الأنشطة الثقافية اللاصفية التي تهذب وجدان المتعلم، وتصقل مواهبه، لأنه عندما تطبع هذه القيم سلوك التلميذ يستحيل أن يتحول إلى شخص غير مرغوب فيه.في زمن كنا نحسب فيه الجريمة تشعر بقليل من الحياء، بحيث لا يمكنها أن تسفر عن وجهها القبيح في مدرستنا، وإذا بها اليوم تقتحم أسوار هذا المكان المقدس بكل شجاعة، لعل من كان يعشق هذه الجريمة أراد أن يسوقها لنا كسلعة جديدة، أو لعله أراد بهذه الجريمة الحمقاء أن يعرض ما تبقى لنا من شرف في سوق المزاد. أليس من حقنا أن نقول بعد هذا الذي حدث بأن مدرستنا باتت تعيش في وضع لا تحسد عليه في هذا الزمن الجميل؟[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات