المجاهدة حد مسعود عربية..   لبؤة جبال الحلفاء

+ -

في بيت حف بالوطنية من كل جانب، وغمر بالحس الثوري العميق، جاءت إلى الدنيا المجاهدة حد مسعود عربية في ذات الحادي عشر أفريل من سنة 1941 بمشتة عين الدفلى دوار الروسية، التابعة لبلدية فرجيوة بولاية ميلة حاليا. ولدت حد مسعود عربية وسط أسرة ثورية، من أبوين شريفين، هما المجاهد حد مسعود محمد والمجاهدة احريش خديجة، ومنهما رضعت مسعودة “لبن” الوطنية وارتوت منه حد الثمالة.لقنت الاستعمار دروسا في الوطنية والجهاد والدها محمد، أحد أقدم مناضلي الحركة الوطنية بالمنطقة، وأحد الأوائل الذين ساهموا في التحضير للثورة التحريرية بالمنطقة رفقة صهره احريش علي وأبناء منطقته لطرش الحناشي وعمراني وآخرون. فكان لزاما أن يتحوّل هذا البيت إلى مشتلة للثوار ومعقل للجهاد.كسّرت التقاليد ولبت نداء الثورةلم يكن أمام المجاهد حد مسعود محمد المكلف من قبل قيادته بتجنيد الفتيات للعمل كمرشدات في صفوف الثورة بالمنطقة، من خيار سوى أن يبدأ بأهل بيته، لكسر تلك الطابوهات التي كان أهل الريف يعارضونها، فجنّد ابنته الوحيدة حتى يقدّم القدوة والمثال، ويكسر حاجز الخوف والتقليد في نفوس المواطنين، ويرمي بفلذة كبده في قلب الثورة لتنخرط في النضال ابتداء من سنة 1956 ببيت والدها الذي كان أحد أهم مراكز الثورة التي تعمل على التجنيد والتموين والتوعية، وكافة الأنشطة المتعلقة بالعمل الثوري.كانت عربية تقوم بهذه المهام وهي لم تتعد سن الخامسة عشر بعد، رفقة والدتها المجاهدة وباقي أفراد عائلتها الذين تجندوا في صفوف الثورة تمهيدا لالتحاقهم بالجبال عند إعطاء الإشارة بالعمل المسلح. الخطوات الأولى في جبل الحلفاءتروي المجاهدة عربية قصة التحاقها بالجبل بشيء من التفصيل معتمدة على ذاكرتها التي لازالت قوية وتحتفظ بكل كبيرة وصغيرة، تقول : “التحقت سنة 1957 بجبال الحلفاء حيث كان مركز قيادة المنطقة بمنزل الشهيد مروج عبد الرحمان، وهناك وجدت فتاتين قدمتا قبل يوم واحد من قسنطينة هما مريم بوعتورة ومسيكة بزاز اللتان حظيتا بشرف الشهادة فيما بعد، رحمة اللّه عليهما “.وفي المنطقة نفسها بجبال الحلفاء وبمزرعة عائلة حيرش بمكان يسمى الزحاتنة، كان يوجد مستشفى ومركز للتدريبات العسكرية، حيث تلقت مجاهدتنا بعض التدريبات على السلاح وركوب الخيل، كما قامت الشهيدة بزاز مسيكة التي عملت من قبل كممرضة في أحد مستشفيات قسنطينة بتدريبها على بعض أعمال التمريض والتطبيب رفقة باقي المجندات اللواتي التحقن أيضا بالمركز قادمات من سطيف والعلمة، على غرار غيموز رقية المسماة “حورية”، وفطيمة طرودي المسماة “عائشة”، وخرشي مليكة من العلمة، وبن معيزة حورية من سطيف.اتخذت المجاهدة حد مسعود عربية اسم “نصيرة” اسما ثوريا جديدا اختارته لها بزاز مسيكة، وهو الاسم الذي لازمها طيلة الثورة وعلق بها إلى يومنا هذا. بعد إنهاء فترة التدريب تقول المجاهدة نصيرة، وبتوجيه من القائد عز الدين بن مبارك، تم تحويل كل المجندات إلى مراكز أخرى لتحمّل مسؤولياتهن، وقد كلفت نصيرة كمرشدة بمنطقتي فرجيوة والروسية. هاتين المنطقتين تغطيان رقعة جغرافية شاسعة، ودواوير ومشاتي كثيرة، حيث كان لها الدور الفعال في عملية التوعية في صفوف الأسر وخاصة النساء والفتيات، وجمع التبرعات والدعم المادي من حلي فضية وأموال، وألبسة وأفرشة، وكل ما يحتاجه العمل الثوري، كما تجلب الألبسة من ميلة مشحونة في شكل طرود، يزودها بها شخص يسمى بلفقراوي الطاهر، وأما الأدوية فكان مصدرها الرئيسي الطبيب حمزة كليوة الذي كان له دور مشهود كما كانت لها مهام اجتماعية أيضا، تمثلت في مساعدة الأسر الفقيرة والأرامل واليتامى لتخفيف المعاناة عن المواطنين الذين كانوا يحتضنون الثورة ويقدمون كل الدعم للمجاهدين.زواجها من المجاهد الشهيد مصالي بومزراقشاءت الأقدار أن تلتقي مجاهدتنا وهي تقوم بنشاطها في كل مكان بالمجاهد مصالي بومزراق المعروف باسم “صالح الريح”، والذي ينتمي إلى فرقة الكوموندوس، وذلك بمستشفى السطاح ببلدية تسالة حاليا، بعد أن أصيب برصاص العدو في معركة جبال الحلفاء الشهيرة، فأصبح عاجزا عن حمل السلاح والتنقل. حدث ذلك بعد عودته من تونس من مهمة جلب السلاح للثورة، ليواصل نضاله مكلفا بالاتصال، وهناك عقد قرانه مع المجاهدة عربية حد مسعود المدعوة “نصيرة”.لم تسعد نصيرة كثيرا بفرحة زفافها حتى جاءها نبأ استشهاد شقيقها عيسى، الذي كان قد أرسل لوالديه رسالة مؤثرة يبشرهما فيها باستشهاده ويحثهما على الصبر والاحتساب، لتغرق في حزن شديد لم تتغلب عليه سوى بقوة إيمانها بأن الشهداء أحياء لا يموتون.وفي الجبل أيضا تضع عبد الجليلوفي شهر مارس من سنة 1960 شاء اللّه أن ترزق نصيرة وزوجها “صالح الريح” بمولود مبارك سمياه عبد الجليل، الذي درج أيامه الأولى في مراكز ثورة التحرير مشيعا جوا من الفرحة في قلوب والديه ورفاقهم من المجاهدين والمجاهدات، كما غرس فيهم أيضا التطلع للحرية ولغد أفضل.استشهاد البطل “صالح الريح”تحكي محدثتنا بألم شديد والحسرة تمزق أحشاءها، لقد قدر لها أن تعيش أحزانا تعقب كل فرحة، حيث إنه لم تمر سوى أشهر قليلة على ميلاد ابنها، لتعود المآسي من جديد وتسكن نفسها الجريحة، ففي شهر أكتوبر من السنة نفسها كان للقدر موعد آخر مع هذه الأسرة المجاهدة، وهذا إثر وشاية غادرة، حيث حوصر البطل “صالح الريح” رفقة مجموعة من رفاقه في أحد البيوت بمنطقة تاشودة قرب العلمة أثناء قيامهم بأداء إحدى المهام، وكانت قوات العدو أكثر عددا وأكبر عدة، وبعد مقاومة عنيفة وإثر تلقيه رصاصات في إبطه نفذت من رأسه فأسلم روحه الطاهرة لبارئها، والتحق بموكب الشهداء الأبرار. تلقت نصيرة نبأ استشهاد زوجها بإحساس يمتزج فيه الحزن والفرح، وشعور يختلط فيه الإحباط والأمل، ذلك أنه ليس من اليسير على المرأة خاصة إذا كانت عروسا في مقتبل العمر أن تفقد زوجها بعد فترة يسيرة من اقترانهما، إلا أن هذه النفوس التي ألفت البذل والعطاء، وتربت في أحضان الموت والاستشهاد، أصبحت لا تأبه للآلام والمحن حتى وإن كانت تنوء بحملها الجبال، لأن عيون المجاهدين لا ترنو إلا لبزوغ تباشير فجر الحرية، وفي سبيل ذلك يرخص كل غال ونفيس. لقد زادها استشهاد زوجها عزما وإرادة على مواصلة مسيرة الجهاد وعاهدت نفسها بالقصاص من الأعداء إلى أن يتحقق النصر أو أن تهلك دونه.المصائب تأتي تباعالم تتوقف محن نصيرة باستشهاد زوجها في سبيل الوطن، فقد توالت الأحزان الممزوجة بالغبطة والاطمئنان على هذه المجاهدة الصنديدة، حيث سقط في ميدان الشرف عدد آخر من أهلها وأفراد عائلتها على غرار أخوها عيسى وعشرة من أبناء عمومتها وما يقارب ذلك من أخوالها، كلهم قدموا نفوسهم عربونا للحرية والاستقلال. هذا الكم الهائل من الشهداء جاء بعد أن قامت قوات الاحتلال بتعزيز ترسانتها العسكرية بمنطقة فرجيوة وضيقت الحصار على المجاهدين والمواطنين. فكانت الحصيلة كبيرة من الشهداء.بعد الاستقلال.. البيت العائلي لرعاية الأيتام من أبناء الشهداءالتحقت المجاهدة نصيرة بعيادة الطبيب كليوة حمزة لإجراء فترة تربصية والعمل معه كممرضة، وبعد انتقاله إلى العاصمة التحقت للعمل بمستشفى فرجيوة، وقد منحت لها السلطات مسكنا كبيرا فاخرا هو الآن الإقامة الرسمية لرئيس الدائرة، فحوّلته إلى مركز عائلي لرعاية الأيتام من أبناء شهداء عائلتها، الكثير عددهم حتى تتيح لهم فرصة لأخذ النصيب الأوفر من التعليم الذي حرم منه آباؤهم وأجدادهم بسبب سياسة التجهيل التي مارسها الاستعمار الغاشم، والتي قضى آباؤهم نحبهم، وقدموا أرواحهم حتى ينالوا حظهم من العلم والمعرفة التي هي أول ثمار الحرية.لم تمكث المجاهدة نصيرة طويلا بفرجيوة، حيث تقدم لخطبتها المجاهد خليلي البشير، أحد رواد الحركة الإصلاحية والوطنية بفرجيوة، فتزوجت للمرة الثانية، وانتقلت معه إلى مدينة قسنطينة حيث واصل جهاده التعليمي، فكانت خير سند له ومعين، إلى أن وافاه أجله يوم 23 أفريل 2006. وهي اليوم تنعم بالعيش الكريم وسط الأبناء والأحفاد، وهي في غاية السعادة وهي تراهم إطارات ومواطنين صالحين.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات