من المعروف أن الطبخ الجزائري راق ولذيذ وقد صنفته القرون انطلاقا من “اختراع” الكسكسي من طرف سكان البلاد الأساسيين، أي من طرف الأمازيغيين، وهذا ما جرى في كل أرجاء العالم منذ بداية التاريخ، إذ لكل شعب أو فئة أو سلالة طبخه، كذلك نجد أن لكل شعب خصوصياته في عدة مقاربات تصبّ في حوض الفلسفة والسياسة والاجتماع والطقوس واللغة والحساسيات. فكل هذه الأمور المادية والمعنوية والمبهمة تكون أسطورة الشعوب، فحضارتهم فوجدانهم، فتاريخهم.لذا جاء التاريخ الجزائري (ككل التواريخ الإنسانية الأخرى، في الحقيقة) يتماشى ومسلسل خاص به يعتمد على بنى لا يملكها إلا هو ولا يملكها غيره وهي تستبق تكوينها ونشوءها حتى يقترح الباحث على نفسه إنجاز نظرية عن نسق أو مجمع مبنيين، وتلعب الأوجه التعاقبية أو التاريخية هنا دورا مساعدا أثناء العرض وأثناء الانتشار. وعندما يدعي الباحث “تأرخنة” بنية ما، فإن المستوى الأول تشغله إذ ذاك الوقائع والتحولات (وأكبر تحول عرفته الجزائر هو انتشار الإسلام الذي أصبح يلعب دورا دينيا وسياسيا، أي دورا تكوينيا) التي يتجلى فيها بالملموس تطور هذه البنية، ولا يصبح الأمر أمر تحليل الكل (بمعنى المجمع) في وضع ثابت نسبيا، بل أمر يهتم بتحليله وبلورته وانتشاره وتحوله، وهنا تلعب الأوجه البنيوية للتحليل التاريخي، دورا مكملا في العرض، وتتم العودة إلى عنصر الزمان أي التاريخ كلما وقعت الحاجة إلى توضيح المبهمات التي تتراكم أثناء تصلب التاريخ.لذا فلكل فئة إنسانية أو بشرية تاريخها مثلما تمتلك طبخها الذي ليس له أي علاقة بطبخ الآخرين، خاصة وأننا نعلم أنه بإمكان كل نسق أن يستوعب سلسلة من التحولات الطفيفة دون أن يستلزم ذلك تحولا جذريا له، ذلك أن النسق التاريخي له بصماته الإنسانية الفريدة من نوعها والتي تضفي عليه حدود الملاءمة بين التغييرات الداخلية وبين كيفية الملاءمة الوظيفية، ومثل ذلك نمطية الاقتصاد الرأسمالي التي أدت به إلى العولمة الاقتصادية والمالية بطريقة عشوائية خاطئة تماما، ومثل ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي يعطينا فكرة الفشل الذريع الذي وصل إليه هذا الاتحاد، خاصة بما فيه من تناقضات أساسية وهو مهدد بالانفجار من الداخل، فمشكل اليونان علامة متميزة على هذا الفشل.والبقية آتية والمثل الآخر هو الاتحاد السوفياتي الذي أراد أن يكون اقتصادا ضخما من خلال بلدان ومناطق لم يكن في إمكانها أن تنسق بينها أي أن تخلق اقتصادا حقيقيا، فتفجر الاتحاد السوفياتي لأنه من بين الأسباب الكثيرة الأخرى، أنه لم يفهم خصوصيات كل جمهورية من الجمهوريات التي كانت تكونه التي تحتاج إلى سيرورة تطور نسقا ثابتا نسبيا ويحتاج إلى خصوصيته العضوية.لذا أخفقت كل المحاولات الاستعمارية والامبريالية منذ ظهور التاريخ، فإذا كانت الجزائر قد أخفقت في صد الاستعمار الفرنسي سنة 1830، الشيء الذي جعل النسق التاريخي يختفي فيها مدة قرن ونصف القرن. ولكن هذا الكسوف وهذا الاختفاء كانا مؤقتين وهذا العمل المؤقت يجعل من عودته عودة مفاجئة وعاصفة مبنية أساسا على تعميق الفجوة (أي التناقض) وأن كل اختفاء لنسق تاريخي ما يخلق تلقائيا وبطريقة متواقتة، هو مصدر ظهور وتكوين لنسق تاريخي جديد وأكثر حدة من سابقه، فجاءت الثورة الجزائرية (1954) وأبهتت القوة الاستعمارية آنذاك.ولهذا السبب، فإن كل مراوغة تستهدف تحطيم النسق التاريخي المتأسس، على وجه الخصوص، من التناقض الاقتصادي الاجتماعي، هي عملية فاشلة، لأن الفترات التاريخية المتأزمة تنط بعد الاختفاء في وجه الشعوب والساسة، مثلما ينط القط المرعوب، أي في وقت غير منتظر.وهذا ما لم يفهمه الغرب المستبد والغاشم وهو يواجه اليوم العنف الإسلاماوي، فيبقى مدهوشاǃ
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات