اليوم جلست أتأمل حالة هيئة تحرير “الخبر”، وكل واحد من أعضائها، إناثا وذكورا، منشغل بجهازه الآلي يداعب بأنامله حروف لوحة المفاتيح!كنا قبل 40 سنة في جريدة “الشعب” نجتمع في قاعات التحرير وبأيدينا الأقلام والورق ونتحاور فيما بيننا أكثر مما نكتب.. لكن اليوم أصبح الحوار في قاعات التحرير ضعيفا وفي بعض الأحيان منعدما، لأن الحوار أصبح بين الصحفي أو الصحفية والعالم الخارجي عبر الحاسوب. نعم، هناك معلومات غزيرة أمام الصحفي في الحاسوب، وله الاختيار فيما ينشره، ولكن ليس هناك أي نضج في المعالجة، لأن الحوار حول المعلومات أصبح بين الصحافيين شبه نادر. ولهذا تأتي الموضوعات صماء خرساء ليس فيها حياة، إلا ما تفضل به الصحفي في حواره مع الآلة.كنا قبل 40 سنة نكتب الموضوعات بالأقلام على الورق ونسلمها لرئيس القسم فرئيس التحرير ثم المدير أحيانا، وفي بعض الأحيان تصل حتى إلى الوزارة قبل أن تأخذ طريقها إلى الطباعة في المطبعة.الطباعة في المطبعة كانت تتم بالرصاص.. وآلة “الإينوتيب” الطابعة عبارة عن مصنع مصغر فيه الرصاص والكهرباء.. وحروف الطبع عبارة عن رزم معدنية.. الحرارة في المطبعة عالية والعمل شاق، ولهذا لا نجد في المطبعة الرصاصية ولا امرأة تعمل. عكس الحال الآن في القسم الفني، حيث يسيطر عليه النساء لطبيعة العمل ورقته ولطافته.أتذكر هنا أننا عندما انتقلنا في جريدة “الشعب” من الطباعة بالرصاص إلى الطباعة بالتصوير الضوئي.. كانت حروف عمودي اليومي هذا، هي أول الحروف التي تطبع بالتصوير الضوئي، وقد قام بالعملية الأولى هذه المرحوم “عبد الرحمان حمروش” المدعو يوسف، رئيس القسم الفني آنذاك! وأتذكر أن زميله “محمد الطيب”، أطال الله عمره، أراد أن يجمع هو العمود بالتصوير الضوئي كأول تجربة، فنهره حمروش قائلا له: أنت أصابعك خشنة لا تصلح للطبع بالتصوير الضوئي، بل تصلح للطبع بالرصاص فقط! فأجابه محمد الطيب ضاحكا: هل أصابعك أنت ناعمة مثل أصابع بريجيت باردو حتى تقوم أنت بالعملية!اليوم أشاهد أصابع كل الصحافيين والصحافيات وهي تداعب لوحات الكمبيوتر برقة ورشاقة، وكأن أصابع الجميع أصبحت مثل أصابع بريجيت باردو أو صوفيا لوران! فعلا كنا نعيش البؤس الإعلامي في سعادة. ونتحدث بصوت مرتفع في قاعات التحرير عن السبع والذيب والمهري وكابويا وبطاطا ودماغ العتروس، وهم يتحدثون في السياسة وفي الثورة وفي البناء والتشييد. كنا نترجم الأرجنتين إلى الجمهورية الفضية وكوت ديفوار إلى ساحل العاج! ونكتب عن تثقيف البهائم عوض تربية البهائم! صحيح أننا في قاعات التحرير انفتحنا على العالم بالكمبيوتر، ولكن في نفس الوقت انغلقنا على بعضنا كصحافيين لغياب الحوار بيننا كما كان.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات