+ -

 سيجد الراغبون في كوب قوارب الموت إلى الضفة الأوروبية هذه المرة، مسدسات وكلاشنيكوف أوروبية وربما صواريخ في استقبالهم، هذا إن نجوا من الموت في مخالب الحوت. والمترشحون للحرقة هذه المرة أضيفت لترتيباتهم السرية متاعب أخرى مضنية من الإرهاق إلى الموت، وهم يواجهون شعارا أوروبيا “أوروبا للأوروبيين”.فصل الاتحاد الأوروبي في مسألة عويصة دخلت جداول المفاوضات والنقاشات وخرجت مرات عديدة دون نتيجة تذكر، لعلاقتها الوطيدة بشيء اسمه “الإنسانية”، ولأن الإنسانية باتت شعارا أجوف بالنسبة لأوروبا التي صارت تخشى على أمنها بشكل تعتقد فيه أن طريق “داعش” إليها يمر عبر البحر وعلى متن القوارب، منحت الضوء الأخضر لضرب كل تواق لأراضيها من “حراقة” سئموا العيش في بلدانهم، ساعين لاقتناص فرص للرفاه فيما تبقى من عمرهم بلافتة عريضة “الموت واحد والحياة واحدة”.لكن هذه المرة بات الجزء الأول من اللافتة الأقرب إلى مصير المهاجرين السريين الذين تخلفوا عن ركوب القوارب، عندما كانت أوروبا تغمض عينا عنهم تارة، وتردعهم ثم تتسامح معهم تارة أخرى، فقد أقر الاتحاد الأوروبي عشية الأربعاء تشكيل قوة من حرس حدود وسواحل جديدة خصيصا لردع المهاجرين، ويرتقب أن تبدأ عملها الشهر المقبل. هذا ما نقل عن وزير الداخلية السلوفاكي روبرت كاليناك الذي قال إن القوة الجديدة سوف تساعد أوروبا في مواجهة التحديات التي تشهدها منطقة “شنغن”، من حيث حرية السفر دون تأشيرات دخول.فاتورة البحث عن حياة أفضلاللافت أن الاتحاد الأوروبي لم يشأ تسمية هذه القوة “قوة عسكرية” واستعمل تسمية “قوة حرس الحدود” كعبارة مهذبة تبعث على الفهم بأن الإجراء الأوروبي عادي، وحتى لا يشاع ما يفيد بأن الطريقة الجديدة في تعامل الحكومات الأوروبية لا تختلف عن التنظيمات الإرهابية التي تقتل دون رحمة، وأن الناس تخموا من فيديوهات وصور التنكيل والقتل الممارسة من طرف تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا والعراق، ولا يجوز وضع الصور كلها في سلة واحدة، بين تنظيم نشأ ليقتل وحكومات تشدد على أمنها مما تسميه “خطر المهاجرين” وصارت لا تأبه إن قتل أفراد استنجدوا بها من أجل تحقيق هذا الأمن.ومن المقرر تشكيل القوة الجديدة من هيئة إدارة الحدود الأوروبية المعروفة باسم “فرونتكس”، بالإضافة إلى وضع 1500 عنصر على أهبة الاستعداد للانتشار السريع في دول تعاني تدفقات استثنائية للمهاجرين. كما أقر الاتحاد الأوروبي نشر ضباط اتصال في بعض الدول لمراقبة تحركات المهاجرين، ودل الإجراء “العسكري” الجديد على أن الحكومات الأوروبية تجاوزها الوضع بعجزها عن مراقبة تدفقات المهاجرين في السابق، رغم ملاحقتهم في الأحياء والشوارع وامتلاء سجونها بهؤلاء الفارين من بلدانهم وأنظمتهم بحثا عن حياة أفضل لم يلامسوها في واقعهم التعيس، لكنهم استنشقوا رائحتها في الفضائيات.هل ضاقت أوروبا بالمهاجرين السوريين وهي تبحث بمخيماتهم عن رائحة “داعش”؟ أم أن القرار “العسكري” لا علاقة له بالسوريين الذين خضعوا لتنظيم حصص محكم “أمنيا”؟تصريحات مسؤولي الاتحاد الأوروبي قبل أزمة اللجوء السوري كانت تشير إلى “احتمال إنشاء القوة العسكرية” منذ عام 2014، ما يعني أن تدفقات المهاجرين السوريين شجعت فقط على تبني القرار وأعطت الاتحاد قليلا من “الشرعية” في أذهان هؤلاء الذين يلتمسون العذر لأوروبا “المحقة” في الدفاع عن أمنها، مثلما تفعل الجزائر وتونس وغيرهما من البلدان المتحسسة من وضع دولي وإقليمي يغلي إرهابا.موغيريني والخجل الأوروبيفي أفريل 2015، وقفت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني أمام مجلس الأمن الدولي طالبة بالقيام بعمليات عسكرية أوروبية لمكافحة تهريب المهاجرين في المتوسط، وسط انقسامات داخل الاتحاد على خطة عمل جديدة حول تقاسم حصص الهجرة.ولخصت موغيريني النوايا الأوروبية التي تحولت إلى حقيقة اليوم بعبارة “أخجل لأن أوروبا لا تستفيق إلا حين تواجه الموت”. عبارة مشبعة بتزكية قرار استخدام القوة العسكرية ضد المهاجرين، وإن أشارت إلى “مهربي المهاجرين”، لكن الحقيقة أن المهربين لا يرافقون الحراقة وتنتهي مهمتهم باستلام المال. وفي تلك الفترة امتلأ قاع البحر جنوب القارة بـ5 آلاف جثة بعد غرق لاجئين خاطروا من أجل حياة جديدة، فكان مصيرهم الموت.أرقام صادمةولأن لغة الأرقام فيما يتصل بالحرقة المرتبطة بمخيال الجزائريين بلغة الموت صارت يُخشى معها على ذوي القلوب الضعيفة من العائلات التي فقدت فلذات أكبادها عرض البحر، قدمت الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان رقما مخيفا أسندته لإحصائيات قيادة حرس السواحل، وقالت إنها سجلت إحباط محاولات هجرة غير شرعية لـ338 مهاجر غير شرعي منذ 21 أوت 2016 إلى غاية 5 سبتمبر 2016، وحاول هؤلاء “الحرقة” عبر السواحل إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط.الرقم لا يعاكس مدلوله تماما ما ورد في الإحصائيات الرسمية لمنظمة مراقبة الحدود الأوروبية “فرونتكس” لسنة 2015 التي أوردت بأن الجزائر تقع في المرتبة العاشرة بين الدول التي يحاول مواطنوها الهجرة بطريقة غير شرعية نحو أوروبا. وحسب تقرير وكالة “تحليل المخاطر سنويا لسنة 2015”، فقد بلغ عدد “الحراقة” الجزائريين الموقوفين عبر حدود القارة الأوروبية البرية البحرية والجوية أكثر من 15587 “حراق” خلال سنة 2015، وشملت قرارات الترحيل نصف عدد “الحراقة” الموقوفين.في انتظار فيديو “النجاة”المؤكد أن القرار الأوروبي سيخلف موجة سخط كبيرة من قبل شركائه. الجزائر استبقت الأحداث وتحفظت إزاء ما وصفه سفيرها في بروكسل عمار بلاني قبل أيام قليلة بانفراد الاتحاد الأوروبي برسم السياسات الأمنية، ودعا الاتحاد إلى إشراك شركائه في رسم هذه السياسة. تصريح مبطن لخلافات أعمق تتصل بسياسة الجوار، بينما نزلت قضية الهجرة غير الشرعية إلى مرتبة دنيا، لتفسح المجال لمسائل الإرهاب. بيد أن هؤلاء الجزائريين الذين ظهروا، في فيديو تُدووِل على نطاق واسع في فايسبوك، يركبون قاربا سعداء برحلتهم ليلا، لا يظهر أن مسامعهم التقطت تصريحات بلاني، فالواقع شيء آخر، زكته في الأذهان مخاوف من الحاصل مستقبلا في ظل سياسة التقشف، والتشديد بربط البطون، ومثلما يخفي المستقبل ما ستحمله السنوات القادمة، فإن مصير هؤلاء الشبان الذين ركبوا قارب “الحرقة” عند “الانطلاق” من عنابة مازال غامضا أيضا، وسيبقى غامضا ما لم يطلقوا فيديو “الوصول”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات