38serv

+ -

يحدث في هذا العالم أن نقع ضحية أطماع الكثيرين ممن وطنوا أنفسهم على ركوب قضايا النصب والاحتيال على غيرهم لما أنعم الله على خلقه من مال أو متاع. وتعج المحاكم بالكثير من هذه القضايا التي عادة ما تتسبب فيها الثقة الزائدة التي يتمتع بها بعض أصحاب النيات الحسنة، وقد يكون من السهل أن يحتال عليك أحد ليسرقك، لكن أن يصل الحد إلى سرقة العواطف والتلاعب بأرقى وأنبل وأغلظ ميثاق في الحياة، وهو الرابطة الزوجية، فهو أمر يستدعي الدراسة، ويستوجب على الهيئات القضائية إصدار المزيد من التشريعات لردع هذا النوع من البشر، مجرمي القلوب، ومدمني القضاء على العواطف الجميلة.. وقفت المراهقة “س” في يوم ما من أيام ربيعها الحالم والواعد أمام منصة المحكمة لتسرد تفاصيل وقوعها في شراك محتال حاول اغتيال قلبها النظيف، وأوهمها بالاستقرار في “مرفأ” الزواج، على غرار سائر بنات حواء. ذلك الشاب الذي آثر عدم إهدار الوقت والدخول من أوسع الأبواب لطلب يدها للزواج، لم يكن في الحقيقة سوى واحد ممن لبسوا ثوب اللئام، لتستيقظ بعد فترة قصيرة على حقيقة أن الزوج الموعود ليس سوى هذا النمط من البشر الذين ألفوا مخادعة الناس والعيش على أحزان الآخرين، لقد قام باغتصابها وسلبها مجوهرات قيمتها ملايين، قبل أن يتركها في حالة يرثى لها على حافة طريق عمومي.لم تكن “س” بحاجة لكل هذه العجلة في رسم مستقبل حياتها، ومحاولة البحث عمن يشاركها أحلامها الوردية، وهو ما أخذه عليها العديد ممن يعرفها، وسبق لها تلقي إشارات تحذيرية منه، لكنها لم تعبأ بكل محاولات الفرملة والنصح والتحذير تلك.لقد كانت فتاة جميلة وذات مستوى دراسي مقبول كان يؤهلها لأن تصبح سيدة نفسها في المستقبل، لولا تلك الشطحات التي كانت تسمعها تارة من قريبات لها، وأخرى من زميلات سابقات لها في الدراسة، عندما كن يتصلن بها بين الفينة والأخرى للاطمئنان عنها، والسؤال عن أحوالها، وما فعلته بها أيام الزمن بعد انقضاء مشوار الدراسة وتفرق كل منهما في سبيله، وعادة ما كانت تنتهي هذه الاتصالات بسلة من النصائح بضرورة الاهتداء إلى فارس الأحلام، والسفر، وإنجاب الأولاد، ووضع حد لسجن الأهل وسطوة الأعراف والتقاليد وانتظار زوج قد لا يأتي، لتجد نفسها تخطو سريعا نحو الهدف مع أول صورة تراها أو رسم كانت ترى فيه المخلص على فرس ليحملها ويطير بها إلى عالم من الأحلام الوردية، لتلتحق بزميلاتها، وتحكي لهم هي كذلك عن السعادة المفقودة التي كانت تعتقد عميقا أنها بين أحضان رجل أي رجل، حتى سقطت في المحظور، كان هذه المرة ذئبا بشريا أوقعتها فيه الأقدار، وليت حظها العاثر لم يجعلها في ذلك اليوم ترد على اتصال خاطئ من هذا الأخير، لقد كان ذكيا قرأ أفكارها بسرعة جعلته يخمن أن الفتاة التي توجد في الطرف المقابل من الخط، مهيأة لأن تصبح “مادة طيِّعة” لقصة استغفال جديدة سبق أن نسج خيوطها مع أخريات وتركهن يعضضن على أصابع الندم.ليس أسهل من أن تطيح بفتاة تحمل مقومات سقوطها بسرعة، ووجدت فيه هي فارس الأحلام الذي تكون الأقدار يسرت لها اللقاء به، كان من الممكن أن لا ترد بعد ذلك عليه وهو يعاود الاتصال، مبادرا إياها بالقول كان اتصالا خاطئا بالفعل لكن نبرة صوتك الدافئ جعلتني لا أقوى على نسيانك، وعرفت هي بكثير من السذاجة وبعض من قلة الحيلة والاستعجال أن الفارس الطائر في عنان السماء ترجل أخيرا وجاء موعد اللقاء.العواطف وحدها لا تكفيتفاصيل القضية كانت عالجتها قبل عدة أشهر محكمة الجنايات لمجلس قضاء المسيلة، من ضمن سلسلة قضايا من هذا النوع، يمكن القول إن “سذاجة” الضحية ساهمت في نسج خيوطها إلى حد كبير، وهو ما مكن من النجاح التام للسيناريو الذي وضعه المتهم للوصول إلى ما تملكه من مجوهرات وأموال، وكذلك إلى شرفها في آن واحد، وهي تفاصيل حسب قرار الإحالة تعود إلى سنة 2012، عندما تقدمت “س” إلى مصالح أمن دائرة سيدي عيسى من أجل تقديم شكوى ضد مجهول قام بهتك عرضها وسلبها مجوهرات تصل قيمتها إلى 100 مليون سنتيم، قبل أن يرمي بها على طريق عمومي. وصرحت الفتاة بأن المتهم كان اتصل بها هاتفيا عن طريق الخطأ، وبرقم مجهول على رقم هاتفها الخلوي، وقال إنها أنه وقع عليها عن طريق الخطأ، وطلب الاعتذار بلباقة، الظاهر أنها معهودة، قبل أن يجدد اتصاله بعد ذلك، وأخبرها باسمه وأنه من مدينة أخرى، وهو يرغب في الحصول على رقم أخيها، بغية التعجيل بطلب يدها منه، بعدما لمس أن هناك ميلا نحوها، إلى هنا استطاع المتهم كسب ود الضحية، خصوصا بعد أن اتصل بأخيها وفاتحه في الموضوع والاتفاق معه على الحضور إلى مسكنهم العائلي.الضحية تشير إلى أن المتهم حضر فعلا على متن سيارة والتقى بأخيها، واتفقا مبدئيا على إحضار أهله وخطبتها بصفة رسمية، مضيفة أنه بعد مرور يومين على ذلك اللقاء، اتصل بها من جديد وأخبرها بموعد الزفاف وعن شروطهم وعاداتهم في الزواج، وأخبرها أن عاداتهم تقتضي أن مهر المرأة يتحدد بمبلغ امتلاكها للذهب، طالبا منها أن تجمع كل ما لديها من مجوهرات وتذهب رفقته نحو صائغ لوزنه وتقدير مقابله من نقود يكون مقدار مهرها بعد ذلك، ولما أخبرته بأنها لا تملك الكثير من المجوهرات اقترح عليها الاستعارة من الغير، وعندها تضيف الضحية قامت بجمع ما لدى أخواتها وجدتها، ليضرب لها موعدا بعد ذلك، ويعرج بها نحو مسلك معزول، وهناك أيقنت أنها وقعت ضحية محتال، حيث لم تنفع محاولتها للفرار، ليقوم باغتصابها وسلبها ما جمعته من مجوهرات وتركها على حافة الطريق، ولاذ بالفرار إلى وجهة مجهولة، قبل أن يعثر عليها أحد المواطنين وهي بين الموت والحياة، فسارع إلى الاتصال بمصالح الدرك الوطني، كانت “س” في تلك اللحظات وهي في طريقها إلى المستشفى لتلقي العلاج تتمنى لو أن  الموت يسرع في المجيء ويخلصها مما هي فيه من معاناة، لقد كان منظر أخواتها وجدتها التي جردتهم من حصاد العمر يطرق مخيلتها، وكان وقع الفضيحة وهي تبسط خيوطها دون توقف بين بيوت الأهل والجيران أكبر مما تتخيله، نظرات لا يمكن تحملها إلا أن تموت ويرحل جسدها الذي تم العبث به، دون أن تلقي عناء لتلك النظرات التي كانت تعني لها الكثير.المتهم.. سجل إجرامي حافل بقضايا النصب والاغتصابمصالح الأمن ومباشرة بعد تلقي البلاغ قامت بشن حملة للبحث والتحري حول الجاني المفترض، إلى أن تمكنت من تحديد هويته واقتياده للتحقيق، ليتبين أن سجله الإجرامي مليء بالقضايا المتعلقة باحتيال على فتيات بغرض اغتصابهن والاستيلاء على ما لديهن من مجوهرات في كل مرة، كثر ضحايا هذا الأخير، وقلبت تفاصيل قصصه المنسوجة من لغة العواطف حياتهن رأسا على عقب، لكن الخوف من الفضيحة كان أكبر من أن يتجرأن على الإبلاغ، إلا القليل منهن اللواتي ظلت قصصهن حبيسات محاضر التحقيق في انتظار وقوع الذئب في المصيدة، وفي حالة “س” لم يكن الأمر ليقبع في الخفاء، لقد كان المشهد هوليووديا، وكان أن كسرت الجرة على الجاني الذي لم يتمكن من الإفلات هذه المرة...ووقع في شر أعمالهقاعة المحكمة، المكان الوحيد الذي عادت ما تدق فيه ساعة الحقيقة، الساعة التي تقوم فيها قيامة المتهم.. لم يعد يجدي إلا الانهيار والجلوس على كرسي الاعتراف. لقد تعرفت الضحية على الجاني الذي لم يلبث القاضي أن عرض عليه سجله الإجرامي الحافل بعمليات النصب والاحتيال والاغتصاب، ليمر عليه الشريط سريعا، وطلب منه القاضي أن يتذكر تلك الوجوه التي حضرت متسترة وتعرفن عليه، ليشتد عليه الحصار من هنا وهناك، وأيقن في تلك اللحظة أن ساعة الحقيقة دقت بالفعل، وأن مكانه محجوز داخل زنزانة السجن.وقضت محكمة الجنايات بمجلس قضاء المسيلة بعد المداولة القانونية بإدانة المتهم بجناية النصب والاحتيال وممارسة فعل الاغتصاب، ومعاقبته بعشر سنوات سجنا نافذا، وإلزامه بتعويض الضحايا، وعلقت إحداهن “لقد كنا نسمع عن هذه الحوادث فقط في سيناريوهات الأفلام والمشاهد الهوليوودية المرعبة، لكن أن ينتقل الأمر إلى هنا فالأمر مرعب بالفعل”، لأن القضية لم تعد تتعلق بقصة منسوجة من وحي الخيال، وإن نطقت المحكمة بقبر هذا الصياد داخل أسوار السجن لسنوات، فإن هناك الكثير من الذئاب البشرية مثله لا تزال خارج هذه الأسوار، لكن بوجوه وسيناريوهات وأفكار مختلفة فاحذرن!

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات