+ -

أعاد تصريح وزير التهيئة العمرانية والسياحة والصناعة التقليدية، عبد الوهاب نوري، حول تجاوزات خطيرة استهدفت العقار السياحي المخصص لمشروع “دنيا بارك” الترفيهي بالعاصمة، مؤخرا، الجدل حول دور العدالة في تجلية الغموض وإثبات نوايا الحكومة في إرساء دعائم دولة الحق والقانون.

تأتي خرجة وزير العدل حافظ الأختام، الطيب لوح، أول أمس، على هامش زيارة تفقدية لمجلس قضاء العاصمة، وتصريحه بشكل يوحي بأن الحكومة ستتحرك للتصدي للنهب الذي يستهدف العقارات المصنفة ضمن أملاك الدولة، حيث وجه لوح دعوة صريحة لزميله في الأفالان والحكومة لتقديم الإثباتات التي تبرهن صدق تصريحاته التي تناقلتها وسائل الإعلام على نحو لم يسبق له مثيل.الوزير نوري قالها بالحرف الواحد: “تم في أوقات سابقة توزيع 65 هكتارا بطرق مشبوهة وغير شرعية” بحظيرة “دنيا بارك” بالرياح الكبرى بالجزائر العاصمة من إجمالي 1059 هكتار، أنشئت في الأساس كفضاء حيوي ومتنفس للعاصمة”.وأضاف أنه “أصيب بالذهول” حين اطلع على ملف حظيرة “دنيا بارك” بعد توليه شؤون قطاع السياحة، واصفا الوضع بـ«الموضوع بالغ الخطورة، الذي يستدعي اتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة”، مشيرا إلى “توزيع قطع أرضية على أساس تجزئة دون مراعاة أدنى الشروط القانونية وبعيدا عن شفافية مسامع الرأي العام الوطني لإقامة استثمارات وهمية تمثلت أغلبها في الإطعام السريع”.وكشف نوري أن كل ما قدر على القيام به، هو إلغاء عقود الاستفادة لـ96 منها 40 كانت تستوعب محلات الإطعام السريع، وإعطاء تعليمات باسترجاع القطع الأرضية وتعويض الموزعة عليهم، مفيدا في نفس السياق أن “عملية التوزيع تمت في غياب مخططات التهيئة ومخططات التجزئة”، وبأن الأمر “خطير بل كارثي”.مثل هذا التصريح الذي ينطوي على خلل كبير في العمل الحكومي، يؤكد أن نوري أبلغ الوزير الأول عبد المالك سلال بالموضوع، بعد حصوله على تقرير مفصل حول قطاع السياحة والمشاريع المعطلة، وبالتأكيد أيضا - حسب معلومات تحصلت عليها “الخبر” - أن سلال أوعز إلى وزيره بأن يقوم بما يلزم في إطار المهام والصلاحيات الموكلة له، وهو ما يفسر “هبّة” قيادة الأفالان على لسان المتحدث باسمه، حسين خلدون، للدفاع عنه.تقول المعلومات إن “نوري فجّر القنبلة في حظيرة “دنيا بارك” لإعلام الرأي العام الوطني ببراءته من الفضيحة، معلنا بذلك “خروجها من مسؤوليته” وملقيا في الوقت ذاته بالكرة في مرمى مسؤولي الجهات القضائية وفي مقدمتهم زميله في الحكومة والحزب، وزير العدل الطيب لوح، الذي سارع إلى إعادته إلى أحضان نوري مسببا له إحراجا لا نظيره له.. ما يعكس على الأرجح “انقطاع التيار” بين الرجلين.ويؤشر هذا التراشق، على أن المتورطين في هذه الفضيحة ليسوا أناسا عاديين، إذ لا يعقل أن يقع وزير السياحة السابق والسيناتور حاليا، عمار غول، في فخ لم يقدر إنقاذ نفسه منه، لو كان هؤلاء “المستفيدون” من صنف المواطنين العاديين!الحقيقة المرّةوما يحز في النفس، أن مثل هذه المهاترات الحكومية، صارت من تقاليد الحكومات التي تعاقبت على الجزائريين خلال السنوات الأخيرة.. فكل مسؤول يرمي بالكرة في مرمى غيره هروبا من المساءلة أو تقديم الحساب. ولا يشترط أن يكون المرء من فئة الأذكياء جدا أو ضليعا في القانون لكي يفهم خيوط الفضيحة. فأساس أي استفادة إبرام عقود البيع والشراء بين البائع والمشتري، عند مكتب توثيق يقوم بتسجيله لدى الجهات المعنية من مصلحة الضرائب والعدالة والإدارة المحلية، وإشهاره في نشرية الإعلانات الخاصة بالعقود التوثيقية التي تعلن انتقال الملكية من وإلى الأطراف المتعاقدة، فلماذا تم كل هذا المسار قبل أن يأتي الوزير نوري ويوقفه؟ أم أن هناك صراعا خفيا بين من يهمهم أمر حظيرة الرياح الكبرى؟ومما يجهله الكثير من الناس، وحتى وزراء تعاقبوا على المنصب، أن كل من اقترب من هذا الوعاء العقاري، احترق وغادر الوزارة أو الحكومة إلى غير رجعة. فمن الشريف رحماني الذي أشرف على المفاوضات مع الإماراتيين لإقامة مشروع متنزه “دنيا بارك”، أكبر حديقة حضرية في العالم (لو يكتب لها البقاء) مرورا بكل من دليلة بوجمعة وعمارة بن يونس وعمار غول، دفعوا ثمن “حشر أنوفهم في عش الدبور”.وما لا يعلم أيضا بأن مشروع “دنيا بارك” جزء فقط من حظيرة “الرياح الكبرى” التي تسيرها الوكالة الوطنية لتسيير حظيرة الرياح الكبرى، وهي مؤسسة عمومية ذات طابع تجاري وصناعي.وفي محاولة لإخماد فتيل فتنة داخل حكومة سلال، سارع الوزير لوح إلى الاستشهاد بمضمون المادة 32 من قانون الإجراءات الجزائية التي تنص: “على كل سلطة نظامية أو كل ضابط أو موظف عمومي يصل إلى علمه، أثناء مباشرته مهام وظيفته، خبر جناية أو جنحة، إبلاغ النيابة العامة بغير توان، وأن يوافيها بكافة المعلومات، ويرسل إليها المحاضر والمستندات المتعلقة بها”.وهذه رسالة ضمنية إلى وزير السياحة، عبد الوهاب نوري، بالتقدم إلى العدالة إذا كان لديه ملفات وأدلة. وذكر الوزير أنه أصدر تعليمات لقضاة النيابة للتعامل مع قضايا التعدي على الأراضي الفلاحية بشكل صارم.قانونيون يتحدثونلكن ماذا يقول رجال القانون في هذه القضية التي أخذت بعدا قد يشهد في الأيام القليلة القادمة تطورات لا تسر من يسمعها أو يقرأ عنها؟ولمعرفة الجواب، طرحت “الخبر” هذا السؤال على اثنين من رجال القانون المتمرسين، هما المحامي فاروق قسنطيني، رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان، والحقوقي بوجمعة غشير، عضو المكتب التنفيذي لشبكة الديمقراطيين العرب والرئيس السابق للرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان. فقد أكد قسنطيني أن من “الصعب جدا على وزير في الحكومة تقديم شكوى ضد وزير سابق، كان يشترك معه في تنفيذ نفس البرنامج.. صعب للغاية نفسيا وأخلاقيا”.وتابع قسنطيني: “ليس ضروريا تقديم شكوى حتى نقوم بتحريك دعوى أمام العدالة، صحيح هناك تدابير جديدة جاء بها قانون الإجراءات الجزائية، منها إلزام الشركات والهيئات بإيداع شكوى لتحريك الدعوى العمومية، وهذا حماية للإطارات وعدم الزج بهم في اتهامات هم أبرياء منها.. لكن مع ذلك أنا لا أفهم لماذا يتم تحريك الدعوى”.لكن نفس المتحدث يقف صراحة إلى صف الوزير نوري، في كشفه لواقع لا يعجب أحدا من الجزائريين، واستمرار تجاوزات لا تخدم هيبة الدولة ومؤسساتها. حيث قال في هذا الصدد: “يجب أن نتكلم، ونعري الذين يتجاوزون في حق الوطن ومصالح الشعب، يجب كشفهم حتى نخرج من (الغرقة) التي نقف فيها، إلى متى نستمر في هذا الطريق!”.أما الحقوقي بوجمعة غشير، فيرى بأن وزير العدل حافظ الأختام، فضل “الهروب نحو الأمام وأعطى تفسيرا خاطئا للمادة 32 من قانون الإجراءات الجزائية، التي تمنح له الصلاحية لإعلام النيابة من أجل تحريك الدعوى العمومية”.وأضاف غشير أن ذات المادة “لا تلزم وزير السياحة بتقديم شكوى للجهات القضائية إذا ما سجل ضررا معينا لحق بقطاعه، تمهيدا لفتح تحقيقات في التجاوزات التي أوردها في تصريحاته حول منح قطع أرضية بحظيرة الرياح الكبرى دون مسوغات قانونية”، مقدرا بأن “تصريح الوزير لوح هو تهرب من تحمل المسؤولية ومحاولة لإحالة الملف إلى أطراف أخرى لتقوم هي بتقديم الشكوى، في حين ونظرا لخطورة الأمر، كان لزاما على الوزير بأن يأمر بفتح التحقيقات”.الأفالان ساخط على الأرنديوقبل أن تصبح فضيحة حظيرة الرياح الكبرى، على كل الألسنة وسببا للصداع لدى العديد من الوزراء الحاليين والسابقين، كانت قد حطت رحالها فوق مكتبي عمار سعداني، أمين عام الأفالان، وأحمد أويحيى، أمين عام الأرندي. وقد ترجمت تصريحات الناطق باسم الأول، حسين خلدون، وتصريحات مضادة لها على لسان الناطق باسم الأرندي، خلافات في الجوهر والشكل بين الجانبين رغم أنهما يجلسان حول طاولة حكومة واحدة!فقد انتقد صديق شهاب خرجة نوري وما تضمنه تصريحه الناري ضد وزير سابق في الحكومة، وأبدى أسفه لذلك، مقدرا بأن ثقافة الدولة تتطلب تضامنا وتعاملا خاصا بمثل هذه القضايا التي تضر أكثر مما تنفع مؤسسات الدولة.وقال أيضا إن كلام نوري عن فساد في حظيرة الرياح الكبرى، يعني وجوب إرفاقه بإجراءات فعلية، في إشارة واضحة إلى تحريك الدعوى العمومية، وهو خيار على ما يبدو لا يلقى الترحيب من داخل المؤسسات الرسمية، باستثناء الأفالان الذي عبر المتحدث باسمه عن صدمته من موقف الناطق باسم الأرندي بإعادة نشر تصريحاته “المتأسفة” على صفحة الرسمية على موقع “الفايسبوك”.ورغم هذا الجدل، الذي جاء في توقيت حرج للحكومة، أي عشية افتتاح آخر دورة للبرلمان الحالي، الأمر الذي يضرب مصداقية الحكومة أولا، والوزيرين نوري ولوح وحزبي الموالاة (الأفالان والأرندي) في الصميم، ويحشر جميعهم في زاوية الدفاع عن النفس بدل استباق المعارضة وتفادي ضرباتها الموجعة.أبوجرة دفع الثمن “كاش”وليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤولون عن الفساد، فقد سبق لوزير الدولة السابق، أبوجرة سلطاني، وأن انتفض ضد “الفساد والمفسدين” في البلاد بمناسبة إطلاقه لمبادرته “الفساد قف” بالتزامن مع حديث الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الفساد بالتأكيد على ضرورة محاربته. لكن سلطاني دفع الثمن نقدا وعلى الفور، بعدما صرح للصحافة بأنه يحوز على ملفات فساد متورط فيها شخصيات وإطارات في الدولة ولم يتابعوا بسببها، حيث لم يفوّت الرئيس بوتفليقة أول فرصة أمامه لـ«صب عليه جام الغضب” في خطاب رسمي بقصر الأمم بنادي الصنوبر بمناسبة اجتماع مع الولاة في ديسمبر 2006 بحضور سلطاني، داعيا إياه إلى تقديم أدلة أو مغادرة الحكومة.وخاطب بوتفليقة وزيره وحليفه في التحالف الرئاسي آنذاك، غاضبا منه “أعرف أن حرية الصحافة تتيح لهؤلاء تصريحات مثيرة تنقص من قيمة البلاد في البورصة، لكنني لا أقبل أن يتاجر أحد بسمعة وبورصة البلاد”.وأضاف بوتفليقة “عزيز علينا أن نجد مسؤولين من الدرجة العليا يتاجرون بالمشاعر الضعيفة عند شعبنا، فيثيرون حملات انتخابية أو لحاجة في نفس يعقوب”، قبل أن يدعوه إلى الخروج من الفريق الحكومي قائلا: “لا يكفي أن نبقى داخل الصفوف، لابد أن نخرج منها”.كما اعتبر أن محاربة الفساد والرشوة “قضية مجتمع وليس قضية سلطة ولا حكومة، وهي تقبل بالحجة والبراهين وليست شقشقة اللسان”، محذرا من مثل هذه التصريحات لأن “لدينا خصوم في العالم نكتفي بخصومتهم، ولكن لن نقبل أن تكون الصفوف هشة ومبلولة”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات