38serv

+ -

في الثالثة ظهرا من مساء الجمعة الماضي 26 أوت 2016، كانت طائرة الأيرباص 399 التابعة لشركة الأجنحة الليبية، الرحلة “يو أل0810” تحط على مطار قرطاج قادمة من طرابلس، وعندما كان المسافرون يحمدون الله على الوصول، إلا أننا نحن الثلاثة كنا نحمد الله على النجاة من الموت أو المصير المجهول، ونحتفي بنهاية تجربة اختطاف في صندوق سيارة،  وساعات من الترهيب بالسلاح. لا أعرف كيف مرت الساعات والأيام منذ ظهر الخميس 25 أوت 2016، كانت الساعة الثالثة وخمس دقائق عندما غادرت ورفيقي علاء مع سائق فندق “الودان”، في قلب العاصمة طرابلس، الذي يقع قريبا من فندق المهاري ومن فندق الشيراتون قيد الإنجاز، وعلى مقربة من مقر السفارة الجزائرية المغلق.. كنا نتوجه إلى مطعم باراكودا للسمك، لأخذ وجبة غذاء قبل العودة الى الفندق مجددا والتوجه الى المطار، فقد كانت رحلة عودتنا الى تونس مقررة في الثامنة مساء، ولم ننتبه لحظة مغادرتنا للفندق أن سيارتين كانتا تراقبان مغادرتنا، سبقتنا إحداهما وتموقعت الثانية خلفنا، كان في صندوق سيارتنا تجهيزات إعلامية وحقائبنا، أردت أن أتاكد من توقيت الرحلة، فطلبت من السائق التوقف لجلب حقيبة ظهر بها تذكرة السفر والتأكد من توقيت رحلتنا مساء، حتى تلك اللحظة كان كل شيء على ما يرام، عاودنا السير مجددا لمسافة قصيرة، وفي لحظة خرج الزمن من ساعاتنا، وعلى طريقة عصابات كولومبيا وأفلام “الأكشن”.عملية اختطاف متكاملة الأركانفي منعرج صغير، توقفت السيارة التي قبلنا وأغلقت علينا الطريق ونزل منها ومن السيارة التي خلفنا ثمانية أشخاص، يحملون أسلحة كلاشينكوف ومسدّسات، لا يتيح المشهد لك أن تفهم أية تفاصيل، كنت أعتقد لحظتها أن الأمر يتعلق برد فعل نتيجة مضايقة السائق لسيارتهم، لكن الأمر لم يكن كذلك، وكانت عملية اختطاف متكاملة الأركان.سريعا طلب منا المسلحون النزول والجثوم على الأرض وتسليمهم الهواتف، مع كثير من الكلام البذيء، كان يحدث ذلك وسط الطريق والسيارات تمر بالقرب من المشهد دون أن تترك قوة السلاح إمكانية التدخل لأي كان، فقد صارت شوارع الكثير من المدن الليبية تحت رحمة الميليشيات والكتائب والمجاميع الأمنية التي تفرض قانونها وتتصارع أحيانا على السيطرة والنفوذ، وزّعنا الخاطفون على الصناديق الخلفية للسيارات الثلاث، فقد باتت سيارتنا أيضا بحوزتهم، أمرني الخاطفون بالصعود إلى الصندوق الخلفي لسيارة “أكسنت” من نوع هيونداي بيضاء اللون، وانطلق الموكب المحتفي بما اعتبرته الميليشيا المسلحة صيدا ثمينا بسرعة جنونية، كانت السيارة تتمايل إلى حد خيل لي أنها بصدد الانقلاب، مطوي أنا داخل صندوق السيارة وفي فمي دعاء أن يخرجنا من هذه العسرة بسلام، كان الموقف صعبا ومرهقا ومخيفا، استعدت فيه شريط الحياة الذي مر سريعا كطيف، تذكرت والدي ووالدتي وزوجتي وإخوتي، كلهم مرت صورهم بين عيني كلمح البصر، وكنت أدعو الله أن يخرجنا من هذه المحنة سالمين، وأتساءل عن طبيعة هذه المجموعة، وإلى أين تتجه السيارات، وكلما زادت السرعة ازداد خوفي من أن تخرج السيارات من العاصمة طرابلس، وعندها سيتعقد الموقف زمانا ومكانا. كنا قد وصلنا ثلاثتنا مساء يوم الاثنين إلى طرابلس قادمين من تونس، في مهمة صحفية وإنسانية لتوثيق حاجيات الوضع الراهن في المستشفيات الليبية وحاجياتها من الأدوية والمستلزمات الطبية، كانت الزيارة بالتنسيق مع إدارة الإعلام الخارجي للمجلس الرئاسي ووزارة الصحة الليبية، في الحقيقة جاءت فكرة الزيارة خلال لقاءات سابقة لي مع وزير الصحة الليبي في حكومة طبرق رضا العوكلي، ومسؤولين في الهلال الأحمر الليبي والكشافة الليبية، حتى اليوم الثالث لوجودنا في طرابلس لم يكن هناك أي مشكل، عدا سوء تفاهم بسيط تمت تسويته في حينه لدى وصولنا الى مطار طرابلس، حيث كانت إدارة الإعلام الخارجية قد أبرقت إلى إدارة أمن المطار بقائمة إسمية لتسهيل إجراءات دخولنا إلى طرابلس، والحقيقة أننا أبدينا قدرا من الحذر خلال تواجدنا في طرابلس، فقد كنت قد قرأت يوم وصولنا بيانا في صحيفة “العدالة والبناء” الصادرة عن حزب العدالة والبناء، يدين عمليات خطف الصحفيين من قبل الميليشيات.كانت السيارات الثلاث تتعرج يمينا وشمالا، قبل أن أشعر وأنا في الصندوق الخلفي للسيارة أنها بصدد الدخول إلى مكان، سمعت تبادل السلام بين من في السيارة وآخرين، عرفت أننا وصلنا مقصدهم، توقفت السيارة، وسمعت أحدهم يقول “انزله من الصندوق ربما قد يكون مات”..“اتركه الجزائري خليه”تم إنزالنا بسرعة وطلب منا أن نطأطئ الرأس لئلا نرى شيئا، وأدخلنا إلى غرفة لم يكن بها سوى كرسي واحد وثلاجة وقارورات مياه كبيرة الحجم، كان عدد المسلحين يفوق العشرة، تجمعوا فوق رؤوسنا وكأنهم فازوا بصيد كبير، تم تفتيشنا وأخذ كل ما بحوزتنا من وثائق وجوازات السفر وأموال وأحذية أيضا، كان أحد المسلحين وهو شاب في مقتبل العمر يرتدي عباءة رمادية اللون ويحمل كلاشينكوف، هو من تولى تفتيشي وحمل أغراضي، عندما سحب الأموال من جيبي كان لدي 157 دينار ليبي، و640 يورو، أعادهم لي، وطلب مني أن أعدّهم أمامه، ربما كان هذا مؤشرا طيبا على أن المجموعة ليست لديها نية سيئة، أعترف أنه لحظتها كانت أمنية أكثر منها مؤشر، لأن طريقة الخطف والوضع في الصناديق الخلفية للسيارات والكلام البذيء، لا يبقي مؤشرا للنوايا الحسنة، كان السائق أكثرنا خوفا، ربما لكونه ليبي الجنسية ولمعرفته بطبيعة هكذا عمليات والنهايات المأساوية لعدد منها، طلب أحد المسلحين منه عدم البكاء، فقال له “أنا لا أبكي على نفسي، ولكن على من تركتهم في البيت”، فرد عليه “لا عليك، نحن من سيتكفل بمن في البيت”، كان ذلك جزء من الترهيب النفسي.كانت المجموعة المسلحة تعرف أننا كنا أربعة، ينقص أحدنا إذن، وعرفوا أن رابعنا الزميل أيمن وهو مصور تونسي كان ما زال بالفندق، حيث كان قد اعتذر عن الخروج معنا، وكان عليهم جلبه، توصلوا إلى طريقة استدراجه من الفندق عبر السائق الذي حملوه معهم وطلبوا منهم أن يجلب الزميل أيمن دون أن يخبره بأي شيء، قبل أن ينقضوا عليهم مجددا مباشرة بعد الخروج من الفندق، صار أربعتنا في أيديهم  وفي غرفة صغيرة وأمام مصير مجهول، وليس لدينا أي مؤشر عن طبيعة هذه الجهة ونواياها، عندما وصل المسلحون بالزميل أيمن كان مرتبكا كثيرا، ولم يقدر على الوقوف لمعاناته السابقة من ظهره، حاول أحد المسلحين أن يقدّم له الماء وطمأنته بأنه في جهاز أمني وليس لدى “داعش”، سمعت أحدهم يقول أنتم في جهاز المخابرات، كان المسلحون يحاولون إعطاء الانطباع بذلك، لكن الظاهر وأغلبهم شباب في مقتبل العمر، أنهم متأثرون بأفلام “الأكشن”، إذ لا شيء يؤشر على أننا في جهاز أمني، لم يتم فحص المادة الفيلمية ولا تم فتح أجهزة الإعلام الآلي، كما أن المكان خراب وأشبه ما يكون بمخزن لمواد البناء، حين سمعت ذلك منيت نفسي أن يكون ذلك صحيحا، رغم أن السلوك العام من بداية الاختطاف لا صلة له بسلوك جهاز الأمن، لكني تذكرت أن كثير من أجهزة الأمن في العديد من الدول العربية تتصرف أحيانا بتلك الطريقة وأكثر، فما بالك في ليبيا التي تغيب فيها الدولة.لفترة ما يقارب الساعتين تقريبا، بقينا داخل الغرفة جاثمين على الأرض، يدخل علينا بين الحين مسلح، عاد الخوف مجددا حينما جاء أحدهم بسلسلة أحكم بها إغلاق الباب، فهمت لاحقا أن المسلحين كانوا مشغولين، بدءا بتفتيش الحقائب وفحص الهواتف والتدقيق في الهويات والوثائق، قبل أن يأتي شابان ويأخذا السائق الليبي الذي كان معنا معصب العينين إلى غرفة أخرى، كانت غرفة التحقيق، بعد نصف ساعة عادوا به ومعه وثائق السيارة ومفتاحها وهاتفه، كان ذلك أكثر مؤشر على أننا نتجه إلى نهاية سليمة بعد ثلاث ساعات من الاحتجاز، أبلغوه أنهم كانوا يراقبوننا منذ وصولنا الى طرابلس، كان على المسلحين أن يأخذوا أحدا منا الى التحقيق، كنت سأكون الثاني لكن أحد المسلحين سأل “من فيكم الجزائري” قلت “أنا”، فقال لرفيقه “اتركه الجزائري خليه” وأخذوا الزميل علاء، وهو صحفي تونسي، بعد نصف ساعة عادوا به ومعه أيضا كل أغراضه، قالوا له “هل تود أن نفعل بك مثل سفيان ونذير”  -وسفيان شرابي الفائز بجائزة “الخبر” الدولية لعام 2012 ونذير القطاري صحفيين تونسيين اختطفا واختفيا في ليبيا منذ أكثر من سنتين، ويجري البحث عنهما حتى الآن، كنت ثالث من عصبت عيناه ونقل الى غرفة التحقيق، كنت حافي القدمين، وكان الشاب الذي يقتادني يتحدث اليّ باحترام ويرشدني في الطريق، شعرت أنني أدخل إلى غرفة، طلب مني أن أجلس وأفتح عيني، وجدت نفسي أمام شخصين كبيرين في السن، كانا للأمانة أكثر احتراما، سألني أحدهما إن كنت أود أن أشرب قهوة، لكني طلبت ماء، لم يكن الوقت وقت قهوة مطلقا، لكن الشعور بالاطمئنان بدأ يتسرب إليّ، كان أحد الرجلين قريبا مني والثاني وراء المكتب يدوّن ما أصرح به، لم يدم التحقيق معي أكثر من عشر دقائق، لكنني لم أشعر بها، سألني الرجل عن سبب تواجدنا هنا وطبيعة عملنا وعن من نسّق الزيارة، وعن عدد زياراتنا إلى ليبيا سابقا، قبل أن يطلب مني اختيار أغراضي ووثائقي من بين كل أغراضنا التي كانت قد نثرت على حافة المكتب، أخذت هاتفي الذي كان مفكّكا بالكامل والجواز والوثائق، وأعادني الشاب نفسه إلى غرفة الاحتجاز، ليكون الدور الأخير على الزميل أيمن وهو مصور تونسي، الذي لم تدم مساءلته أكثر من خمس دقائق، أبلغنا أيمن لاحقا أنهم قالوا له أيضا “هل تودّ أن يكون مصيركم مثل مصير نذير وسفيان”.طلب منا بعدها أن نلبس أحذيتنا، وأن نخرج واحدا واحدا ورؤوسنا مطأطأة لركوب سيارة رباعية الدفع، فيما كان أحدهم يسوق سيارتنا، خرجنا من ذلك المقر المجهول، وطلب منا أن لا نرفع رؤوسنا تحت تهديد السلاح، حيث رفع أحدهم المسدس في وجوهنا وتعهّد بإطلاق الرصاص لأدنى حركة، كان واضحا أن المسلحين كانوا يريدوننا أن لا نتعرف على المكان، - لكننا تعرفنا على المكان لاحقا بعد تجميع معلومات، كان الأمر يتعلق بمكان يقع خلف فندق كورنونثيا، يتبع ميليشيا مسلحة بقيادة شخص اسمه التاجوري-، وبعد مسافة سير لخمس دقائق، توقفت السيارة، وطلب منا أن ننزل الواحد تلو الآخر، ونركب سيارتنا وألا نسير وراءهم، انطلقوا بسرعة كبيرة، فيما اتخذنا نحن الطريق المعاكس الذي يوصلنا الى ساحة الشهداء، الساحة الخضراء سابقا.كان الموت قريبا منا وكنا إلى المجهول أقرب اتجهنا مباشرة الى الفندق لجلب حقيبة أخرى كانت ما زالت هناك لدى الاستقبال، لكن الفندق أبلغنا أن المسلحين أخذوا الحقيبة التي لم تعد، كنا نسير بأقصى ما يمكن للوصول الى المطار، فقد كانت الساعة  السابعة، ومرت أربع ساعات منذ احتجازنا، كانت رحلتنا على الساعة الثامنة إلى تونس في طيران البراق، حاولنا أن نتصل بالمطار لإبلاغهم بالإبقاء على أماكننا، لكن الرحلة فاتتنا، بقيت رحلتان فقط من مطار معيتيقة، واحدة باتجاه اسطنبول والأخرى باتجاه نيامي وفي حوزتنا 700 يورو فقط، حاولنا أن نحجز على أي منهما، كان المهم بالنسبة لنا الخروج من طرابلس، لم نوفّق في ذلك، اتصلنا بصديق على علاقة بالكتائب والميليشيات، وأبلغناه بالوضع، طلب منا عدم الخروج من المطار وأنه في طريقه إلينا، أخذنا إلى أحد الفنادق الآمنة والمحروسة، وتكفل بتوصية زعيم ميليشيا تتحكم في المنطقة تلك، فقد باتت طرابلس مربعات أمنية لكل ميليشيا أو جهاز أمني على طريقة بيروت في لبنان، وتكفل بحجز ثلاث تذاكر في طيران “الأجنحة الليبية” إلى تونس في اليوم الموالي، وتكفّل مرفوقا بشخصين آخرين بنقلنا الى المطار وتأمين مغادرتنا.عندما أقلعت الطائرة كنا نتبع مسارها عبر تقنية “جي بي آس”، وعندما دخلت الأجواء التونسية، كان ذلك إيذانا بنهاية الرحلة، وعرفت أن الله كتب الحياة مرة أخرى، وأنني نجوت من محنة لا أفكر لحظة واحدة أن أتمناها لأي شخص، فقد كان الموت قريبا منا وكنا إلى المجهول أقرب، وعندما حطت الطائرة في مطار قرطاج، حمدنا الله على السلامة، كان أحد المسافرين الليبيين قد سمع حديثنا عن قصة الاختطاف، فاستدار واعتذر وقال “حتى نحن يخطفوننا، الله غالب ليست هناك دولة للأسف”، ما بقي عالقا بالنسبة لنا أن تجرب الركوب في الصندوق الخلفي لسيارة .. ضحكنا على بعضنا كثيرا .. 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات