عيادات الولادة في المسيلة.. من إكسير للحياة إلى عنابر للموت

+ -

لم يكن زوج الضحية “ج. انتصار” يعلم وهو يلج رفقة زوجته ذات مساء من يوم 26 فيفري من السنة الجارية، مدخل العيادة متعددة الخدمات ببلدية برهوم في ولاية المسيلة، بغية وضع مولودها من جنس ذكر، أن هذه الأخيرة التي قيل لها إن الأمر يتعلق بولادة عادية، سوف تترك ابنها الذي اختارت له من الأسماء “يوسف” ليكون سندا لأختيه، وتلاقي وجه رب كريم، مخلفة وراءها أسى وحزنا كبيرين وآلاما لا تمحوها السنون، بعدما كانت الراحلة قد بشرت والدتها بالمولود الجديد لحظات قليلة قبل أن تسلم روحها لبارئها.. قصة السيدة انتصار، أم لثلاثة أبناء، تتلخص، حسب زوجها الذي رفع شكوى يتهم فيها الطاقم الطبي لعيادة برهوم بالإهمال، في أنها دخلت لكي تضع مولودها بطريقة عادية وطبيعية، قبل أن تصاب بنزيف دموي حاد نجم، حسب زوجها، من ترك الطاقم المشرف على ولادتها مرفقات الجنين عالقة بها، والخروج من القاعة التي كانت فيها، ما أدى إلى سقوطها من طاولة الولادة، وتعرضها إلى كدمات على مستوى الوجه وبعض من جسدها، حسب ما أقرت به هي إلى مصالح عيادة الولادة سلميان عميرات بمدينة المسيلة، والتي نقلت إليها في وضعية حرجة، وهو ما جاء على ذكره تقرير لفريق المناوبة الذي استقبلها فجر ذلك اليوم، 27 مارس 2016، وكذلك والدتها التي اتصلت بها لتخبرها أنها وضعت مولودها، وأنها سقطت من على طاولة الولادة بعدما تركت لوحدها، الأمر الذي تسبب لها في كدمات على مستوى الجهة اليسرى من الوجه وكذا ذراعها، وقد تم نقلها إلى عيادة الولادة سليمان عميرات، وفي هذه الأخيرة واجه الطاقم الطبي صعوبات في إنقاذ الضحية، حيث لم تنفع كل المحاولات في إعادة النبض لقبلها وتخليصها من مرفقات الجنين التي تركت عالقة بداخلها، وكانت وراء تعرضها لنزيف حاد، أدى إلى وفاتها بعد ذلك.ولأن الضحية رحلت إلى بارئها، انطلقت حرب بيانات بين هذه العيادة وتلك، كل يتقاذف مسؤولية الإهمال إلى الجهة المقابلة، ويحاول بكل ما أوتي من قوة إبعاد الكرة عن مرماه.. شكوى الزوج، تحقيقات العدالة، تقارير هنا، وأخرى هناك، وتقرير الطبيب الشرعي الذي يبقى الرقم الصعب في معادلة تبدو هي الأخرى أصعب، إذ لا تزال مسألة الإفراج عنه مؤجلة إلى غاية اليوم. ورغم مرور أسابيع على الواقعة، لم يبرز في الأفق سوى أصوات النفي والإثبات من أطراف تحاول كل منها تبرئة ذمتها مما حدث للسيدة انتصار. فبين نفي مدير مؤسسة الصحة الجوارية بمڤرة سقوط المرأة في واحدة من عياداته التابعة له إداريا، وإثبات عيادة ولادة المسيلة أن حادثة السقوط لا لبس فيها، بناء على تصريح للضحية قبل وفاتها، وتقرير للطاقم الطبي يدعم ذلك صورة وصوتا، ومع ذلك تظل كل أشكال التبرئة قائمة في حق هذا وذاك، دون أن يلتفت أحد ما إلى مأساة زوج لم يستوعب لحد كتابة هذه السطور أن قطاع الملايير في ولايته مازال يقدم خدمة صحية بمقومات ووسائل وذهنيات جراحة القرون الوسطى، وبعد أن تقع الفأس في الرأس تبدأ مرحلة أخرى جديدة، الهروب من المسؤولية والبحث عن الحجج والمبررات وغيرها، من نقص للقابلات، والأطباء المختصين ونحو ذلك، مع أن آلاف الملايير رصدت للقطاع وسياسة الهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأرقام المضخمة والتقارير الجوفاء من لدن مسؤوليه، لم ولن تشفع إلى الآن في رسم معالم منظومة صحية قادرة على الأقل على التكفل بحالات ولادة طبيعية لا تستدعي دقائق من عمر الزمن أو حتى ثوان معدودات..“انتصار”.. مجرد رقم، جثة بلا عنوان، أم ملف طواه غبار النسيان؟ورغم كل ما قيل ويقال، ودون الخوض في تفاصيل أكثر، لأن المتعارف عليه هو “إذا حضر الماء غاب التيمم”، وفي هذا المقام، إذا حضرت الوثائق غاب كل تأويل. في المحصلة قصة “انتصار” ليست سوى عينة من عشرات العينات لنساء حوامل كثير منهن وضعن حملهن على حواف الطرقات، ومنهن من حكم عليهن عبث منظومة صحية بالموت إهمالا على طاولات الولادة وعلى ردهات المستشفيات، والقائمة لاتزال مفتوحة. ولئن كانت عدالة الله قائمة و”انتصار” ذهبت إلى جوار رب رحيم، تبقى عدالة الأرض وشكوى زوج ينتظر الإنصاف حتى لا تظل شكاوى الإهمال التي كثيرا ما توجه هنا وهناك كرجع الصدى في الوادي كما يقال .. وبعد رحلة أشهر.. الطريق إلى العدالة للبحث في قضية قيل إنها بحاجة إلى فهرس وإلى رقم يحفظ لها حق الوجود في الأدراج، وتهمة تعلق حبال المشنقة لهذا أو ذاك. إنه حلم أشبه بأضغاث أحلام، يقول أحد العارفين. قضية انتصار ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، هي مسلسل طويل من قضايا الإهمال خرج منها أطباء ومسؤولون وقابلات والكثير ممن ينعتون اليوم بالملائكة يحملون براءات أشبه بتلك البراءة أو تفوقها بقليل التي حصل عليها الذئب من دم يوسف عليه السلام، لتجتر القصة نفسها كل مرة على أمل ملء الخانة برقم جديد، وقضية جديدة، وضحية ترسم كل يوم ملامح انطفائها في واحدة من هذه الأروقة من عنابر الموت.مديرية “الحبل على الغارب” واختصاص طب النساء الملف الذي تحول إلى لغز في الولاية 28لم يكن عصيا على مسؤولي الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات في المسيلة إيجاد الوسيلة الأنجع لترويض لجان التحقيق وتغيير بوصلة الخطر كل مرة تهب فيها رياح الغضب على مهازل تسيير القطاع في الولاية، من واقع خبرة في هذا الخصوص بلغت حد الضحك على ذقن الوزير الأول، ومراوغة نواب البرلمان، والظفر في الأخير بشهادات تبرئة ذمة، واعترافات بحسن السيرة والسلوك لمسؤولي القطاع محليا لاستعمالها بعد ذلك في إقرار سياسة رهن الخدمة الصحية، وانتظار ما سوف تسفر عنه لجنة تحقيق أخرى مرتقبة، وهكذا دواليك.هذا الواقع هو ما باتت تحتكم إليه مديرية الصحة لعدة سنوات، التي ظلت تنتهج سياسة “اللعاب احميدة والرشام احميدة” عندما يتعلق الأمر بحراك على مستوى البرلمان، كما هو الحال بالنسبة للنائب عن حركة النهضة، حسين عريبي، الذي تفضل بطرح سؤال كتابي على مستوى الغرفة السفلى للبرلمان يطلب فيه توضيحات حول تسيير المؤسسة العمومية الاستشفائية المتخصصة في التوليد “سلميان عميرات” بالمسيلة، وتجاوزات تكون قد حصلت بهذه الأخيرة، من خلال إقدام أطباء يضمنون المناوبة بها في إطار اتفاقية تعاقد على إجراء عمليات ولادة قيصرية وطبيعية كذلك داخل هذه الأخيرة بمقابل مالي، وهو السؤال الذي أكد بما لا يدع مجالا للشك أن منح صلاحية الردود على نفس الجهة المتهمة بالسكوت على هذه التجاوزات أو فسح المجال لها للبقاء، ولو على حساب المئات من مرتادي هذه المؤسسة العمومية، مازال يعطي الانطباع ويعززه في الغالب بأن التمادي في ركوب سياسة “اللّعاب والرشّام” مازالت قائمة، وأن أي إمكانية للنهوض بالقطاع وترقية الخدمة الصحية إلى ما يواكب اعتمادات بالملايير صرفت لتحسينها، تبقى بعيدة المنال ومن سابع المستحيلات، على الأقل في الظرف الراهن، وكان الأجدى لو حسنت النيات والتفكير في وضع لجان تحقيق محايدة تضرب بيد من حديد وتعمل على وقف التجاوزات وفسح المجال واسعا للتحري حتى لو كان من قبيل مجاراة المثل الشعبي الشائع “لا وجود لنار من غير دخان”، يقول المسيليون.بهذا تكون مديرية الصحة في المسيلة، والعهدة على ما حمله الرد الكتابي على سؤال النائب عريبي، حول موجة التقارير الأخيرة التي أطلقتها لجنة الصحة بالمجلس الشعبي الولائي، والتي أعطت صورة سوداوية عن القطاع، والنهاية المأساوية التي عرفتها قضية “انتصار”، المرأة الحامل التي ماتت على إحدى طاولات الولادة بهذه الأخيرة، وخلفت وراءها حرب بيانات وبيانات مضادة بين مسؤولي عدة مصحات، كل يتقاذف مسؤولية وفاتها للآخر، قبل أن يتم طي ملفها مثلما طويت عشرات الملفات من قبل تحت ملاحظة “قضاء وقدر”، تكون ضحكت على ذقن الوزير الأول عبد المالك سلال، وحملته مسؤولية روح بريئة ذنبها الوحيد كان ارتياد عيادة عمومية بغرض الولادة، في الوقت الذي استطاعت كذلك مراوغة النائب عريبي الذي حولته إلى مروج للوهم، والدليل أن نتائج التحقيق لم ترشح عن شكاوى تثبت وجود تجاوزات من أطباء في إطار التعاقد يجرون عمليات جراحية بمقابل مالي، وكما اعترفت مبررة كذلك بالحاجة إلى هؤلاء المتعاقدين للنقص الفادح في هذا النوع من التخصصات، بالنظر إلى وجود أربعة اختصاصيين في طب النساء فقط على مستوى الولاية، ما يستجوب إسداء أوسمة عرفان لهم على الخدمات المقدمة بدلا من تشويه صورتهم، حتى لو كان ثمن الخدمة التي يقدمونها “ثلاثة ملايين سنتيم للرأس الواحدة” عدا ونقدا، السؤال ما موقع مديرية الصحة من إعراب الجهد الذي بذلته لاستقدام اختصاصيين في طب النساء التوليد، رغم أن المعاهد تدر سنويا المئات منهم ومنهن، هناك من هؤلاء من رغبوا ورغبن في العمل بهذه المؤسسة ليجدوا أنفسهم وأنفسهن بعد أشهر قليلة تحت طائلة المضطر والمضطرة للهروب إلى وجهات أخرى، لسبب واحد ووحيد هو أن أطباء التعاقد ومن حولهم من المنتفعين لا يرضون تقاسم عشائهم مع الآخرين؟.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات