لو كان الإعلام في الجزائر إعلاما، وكانت العدالة عدالة، لقاما بنشر محتوى الجلسة التي حوكم فيها الصحفي تامالت يوم 9 أوت الجاري. الجلسة كانت بالفعل حوارا راقيا بين عدالة مسجونة بالتعليمات وصحفي حر خلف القضبان. كل الذين حضروا الجلسة لاحظوا الفرق بين طرفي التقاضي: واحد غير حر في ممارسة مهامه والآخر حر في زنزانته.كانت سلطة الحجة التي قدمها الصحفي في الدفاع عن نفسه قوية إلى حد أنها أربكت النيابة والقضاة والدفاع أيضا، ولكن القضاء عندنا يحتكم لحجة السلطة ولا يأخذ سلطة الحجة التي تعتمد عادة في القضاء المستقل. وأنا على يقين لو أن الرئيس بوتفليقة علم بمحتوى المحاكمة التي جرت لتامالت لأمر بإطلاق سراحه مادامت المحاكمة تمت باسم الرئيس.عندما سأل القاضي والنائب العام المساعد الصحفي تامالت “هل تقبل أن يقال فيك ما قلته في الرئيس بوتفليقة؟”، كانت إجابة الصحفي واضحة وقوية الحجة ومفحمة للسائل “أقبل ذلك ما إذا كنت شخصية عامة.. الذي يقبل أن يكون شخصية عامة عليه أن يقبل بأن يتدخل الناس في حياته الخاصة، ومن لا يريد ذلك عليه ألا يتولى المسؤوليات التي تجعله شخصية عامة”.. حتى المحامون كانوا يتلذذون بما قاله تامالت.واضح فارق المستوى في الطرح بين صحفي يعتمد المدرسة الأنجلوسكسونية في مفهوم الحياة الخاصة، وبين قضاة تكوّنوا في المدرسة الفرنسية المتخلفة في هذا المجال، والتي تعتبر الحياة الخاصة للشخصيات العامة أشياء محرّمة.القاضي سأل تامالت أيضا “من أين حصلت على المعلومات التي نشرتها عن المسؤولين ضحاياك؟”، وكانت الإجابة مفحمة “أنا صحفي، وعملي هو التحري، ومن واجبي أن أصل إلى معلومات كتلك التي نشرتُ، وإذا لم أفعل ذلك فأنا مقصّر في مهنتي ولا أستحق هذا اللقب، لقب الصحفي”.واضح أن القضاة لا يعرفون بأن الصحفي الماثل أمامهم هو خريج العلوم السياسية في الجزائر ومعهد الصحافة، وأنه أخذ منحة للدراسات العليا في بريطانيا، وحصل منها على ماجستير في الإعلام والعلوم السياسية، ودرس بأموال الشعب الجزائري، وعندما عاد إلى الجزائر لم يجد عملا ولا سكنا، وهو بهذا المستوى من التأهيل العلمي، ووجد الإعلام العمومي وحتى الخاص بيد جهلة ومحتالين.تامالت لمن لا يعرفه أتقن استعمال الإعلام الآلي إلى حد أنه أصبح “هاكر” في هذا المجال، وهذه الكفاءة مكّنته من الوصول إلى المعلومات التي نشرها، ورأى فيها القضاة أنها مسرّبة من جهات اهتمّ القضاء بالبحث عنها أكثر من اهتمامه بصحة هذه المعلومات. لو بحث القضاء بعمق في قضية تامالت لكانت أحكامه ضده مغايرة تماما لما صدر من أحكام حتى الآن.تامالت اتصلت به الجهات المتضررة مما نشر وهو في لندن لمساومته ولكنه رفض، وقال لمن بُعث لمساومته “إذا كان هذا هو الموضوع الذي تريد رؤيتي لأجله مرة ثانية فلا داعي للقاء ثانية”.رجال الإعلام لم يساندوا تامالت بما فيه الكفاية، ليس لأنه على خطأ، بل لأنه بطّال وفقير وبلا سكن، وفوق كل هذا هو يتيم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات