+ -

أوغلت الحكومة في استهداف الطبقات المتوسطة والضعيفة، عبر إجراءات خفض النفقات وشد الحزام التي بدأتها مع قانون المالية لسنة 2016، وهو ما بدأ ينعكس فعليا في تململ الجبهة الاجتماعية التي بدأت قطاعات عريضة فيها التحرك باكرا لرفض تحميلها عبء الأزمة، ما ينذر بخريف اجتماعي ساخن. استنفدت الحكومة كل ما لها من حلول في مواجهة الأزمة المالية، وفق ما يشبه عملية استنزاف نالت من الطبقات الهشة في المجتمع، لتعويض العجز الفادح المسجل في ميزانية 2016، في مقابل تسهيلات لا حصر لها للفئات الميسورة في المجتمع من رجال المال والأعمال تحت يافطة تشجيع الاستثمار وتنويع الاقتصاد الوطني.ولم تمر سوى أشهر على هذه السياسة حتى بدأت آثارها السلبية تطفو على السطح، خاصة على صعيد الجبهة الاجتماعية التي بدأت تتحرك رفضا لإجراءات التقشف التي تلطفها الحكومة بتسمية “إجراءات ترشيد النفقات”، وذلك باعتراف أجهزة الدولة الأمنية التي باتت تقاريرها ترصد ارتفاع وتيرة الاحتجاجات في الشارع.وقد رصد تقرير قيادة الدرك الوطني، في هذا السياق، ما لا يقل عن 500 احتجاج يتعلق بالأمن العام خلال الثلاثي الثاني من هذه السنة، وشددت على أن احتجاج الجبهة الاجتماعية مرتبط أساسا بالصعوبات التي تواجه المواطنين في الحصول على مناصب شغل، والسكن والتزود بالمياه الصالحة للشرب، والربط بخطوط الكهرباء، وتحسين ظروف المعيشة بصفة عامة.ويبين هذا التقرير بدقة كيف أن الثلث الثاني من سنة 2016 بدأ يضغط بشدة على المواطنين خاصة في الولايات الداخلية، تضررا من سياسة الدولة الحذرة في الإنفاق، حيث بدأ مستوى الخدمات يتراجع في ظل الإصرار الواضح على تقليص تمويل البلديات عبر القطر الوطني، باعتراف وزير الداخلية، نور الدين بدوي نفسه، الذي طالب مسؤولي الجماعات المحلية بالبحث عن تمويل ذاتي لمناطقهم، لأن الحكومة صارت خزائنها خاوية.ضغط الجيوبغير أن الضغط على جيوب أصحاب الأجور الزهيدة بدأ فعليا مع مطلع سنة 2016 التي حملت أخبارا غير سارة للجزائريين، من خلال الزيادات الكبيرة في أسعار الوقود والتي وصلت إلى حدود 30 بالمائة، وما انجر عن ذلك من زيادات في أسعار النقل والسلع والخدمات، ناهيك عن الزيادات في أسعار الكهرباء التي بدورها صارت محسوسة للجزائريين الذين خرجوا إلى الشارع، في اليومين الأخيرين، في عدد من المناطق تعبيرا عن احتجاجهم على الفواتير الغالية.ولم تتوقف الحكومة عند هذا الحد، فقد عمد الوزير الأول، عبر تعليمة عممها على كل الوزارات والولايات، تقضي بعدم إنفاق أكثر من 50 بالمائة من الميزانيات المخصصة لها، وهو ما جعل الدوائر الوزارية في ورطة من أمرها، لأن هوامش تحركها صارت محدودة للغاية في ظل اعتمادها الكلي على ما تدره الخزينة العمومية. وكانعكاس مباشر لهذه التعليمة، عممت وزارة التضامن الاجتماعي مراسلة إلى كافة مديرياتها، من أجل تطهير قوائم المنح الاجتماعية والعائلية التي تقدمها لذوي الحاجة.ولاحقت هذه السياسة “اللااجتماعية” بتعبير اليساريين، قطاع التشغيل الذي لم يعد قادرا على امتصاص نسب البطالة العالية والتي فاقت للمرة للأولى منذ سنوات حاجز الـ10 بالمائة رسميا، مع أنها في الواقع أكثر من ذلك بكثير بشهادة الخبراء. وارتأت حكومة سلال، في هذا الجانب، تقليص فتح مناصب العمل في القطاع العمومي إلى أقصى حد ممكن، فلم يعد متاحا من مسابقات إلا في قطاع التربية والتعليم العالي، بينما باقي القطاعات صارت مقفلة تماما أمام أصحاب الشهادات الذين صارت نسبة البطالة في صفوفهم تفوق 25 بالمائة.كما لم يسلم أيضا ملايين المقبلين على التقاعد من قرار مفاجئ، يلغي التقاعد دون شرط السن والتقاعد النسبي، وهو ما نزل كالصاعقة على كثير ممن أفنوا عمرهم في وظائف شاقة وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر فرصة الانعتاق من العمل والحصول على معاش نظير سنوات اشتراكاتهم الطويلة في صندوق التقاعد، لكن هذا الصندوق الذي كان يسجل فائضا قبل سنوات قليلة، صار فجأة في نظر الحكومة عاجزا ولا يمكن موازنته إلا على حساب سنوات عمل أخرى لهؤلاء الغلابى.والأدهى من كل ذلك، أن ثمة تفكيرا في وارد الحكومة حتى لتقليص أجور الوظيف العمومي والمؤسسات العمومية، كإجراء استثنائي في حال استمر شح الموارد بالمنحى التنازلي المستمر منذ 2013. وقد بدأت أول أماراته بتأخر أو إلغاء دفع منح معتادة لصالح مسؤولين وإطارات في البلديات والدوائر.قنبلة اجتماعيةهذا التفكير الإداري في معالجة الأزمة المالية على حساب الطبقات الضعيفة، صاحبه أيضا عقاب اقتصادي لا يقل فداحة في آثاره. فقد أدت سياسة تعويم الدينار الجزائري إلى إصابة القدرة الشرائية للجزائري البسيط في مقتل، حيث فقدت العملة والوطنية 38 بالمائة من قيمتها خلال 6 سنوات مقابل الدولار، 20 بالمائة منها في السنتين السابقتين، وهو ما انعكس بجد على أسعار السلع والمواد التي تعرف ارتفاعا جنونيا، بعيدا عن نسب التضخم الحكومية المقدمة.كل هذه الإجراءات التي تستنزف بجد طاقة المواطن الجزائري، تشكل مقادير قنبلة اجتماعية موقوتة قد تنفجر في وجه الحكومة في أية لحظة، إلا في حال استعادت أسعار المحروقات عافيتها وأعادت لها القدرة على مواصلة شراء السلم الاجتماعي، بما يسمح لها باكتساب مزيد من وقت تسيير الأزمة دون علاجها الجذري.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات