المتابع لما يجري في الجزائر تقفز إلى مخيلته ما قرأ في القصص والجرائد عن حرب العصابات.. كيف تبدأ، وكيف تدور أطوارها، وكيف تنتهي.عصابات الجزائر بدأت في التشكل غداة الاستقلال، ثم راحت تكبر على مر السنين. ولأن فترة بومدين رحمه الله كانت فترة الاشتراكية التي لا يسمح فيها بالغنى لأي طبقة، فلم تظهر هذه العصابات بشكل واضح، ويؤرخ لظهورها بالشكل الواضح بعهد الرئيس الشادلي بن جديد رحمه الله، لكن أفرادها لم يكونوا بالكثرة التي تؤدي إلى استنزاف ثروة البلاد كلها.لكن لما وقع انقلاب 1992 وجد أفراد العصابات ضالتهم! فالانقلابيون ليسوا بالكثرة التي تستطيع السيطرة على شعب الجزائر الذي فاق 30 مليون نسمة، ولا يستطيعون السيطرة على مساحة الجزائر التي تفوق 2 مليون كلم مربع، فطلبوا خدمات أفراد العصابات القديمة، وفتحوا باب التوظيف لأفراد جدد ليعينوهم في قمع 30 مليون جزائري على كل مساحة الجزائر، وأجَّرتهم مقابل ذلك ما استطاعوا نهبه من ثروة الجزائر.. فراح أفراد العصابات، الجدد والقدامى، يقتلون وينهبون، وكلما زاد القتل زاد المقابل، فالبسيط منهم يأخذ مليونا على كل نفس أزهقها، والكبير يأخذ مئات الملايين من عائدات البترول، وتسابق الجميع لأن يكونوا كبارا، فقُتل عدد كبير من أفراد الشعب، قيل رُبع مليون، وقيل أكثر من ذلك بكثير.وقيض الله للجزائر رجالات من الطرفين فتوقف القتل، ولكن لم يتوقف النهب، إلى أن انهار سعر البترول، فلم تعد حصيلة بيعه تكفي لهذا الكم الهائل من الفاسدين، فبدأت الصراعات بينهم، وأسفرت عن تشكل عصابتين؛ عصابة الرئاسة وعصابة المخابرات. ومن البداية بدت عصابة رجالات المخابرات ضعيفة؛ بسبب ثقل ملف جرائم العشرية الحمراء التي أُلصقت بهم؛ فتساقطوا الواحد تلو الآخر، وبدا لعصابة الرئاسة أنهم قد كسبوا الحرب، فأعداؤهم قد سقطوا دون خسائر، والشعب فرح بهذا السقوط. لكن أقول إن عصابة الرئاسة في الحقيقة قد كسبت معركة ولم تكسب الحرب؛ لأن ذهاب عصابة المخابرات بملفاتها سيلفت الأنظار إلى عصابة الرئاسة بملفاتها أيضا التي ستبدو ثقيلة في نظر عصبة نظيفة صاعدة تخوض الحرب ضد عصابة الرئاسة التي لا تقوى على المواجهة، بسبب ملفات الفساد التي تثقل كاهلها؛ كملف سونطراك وملف الطريق السيار، فتخسر المعركة والحرب أيضا، وينتصر القادمون الجدد الذين هم في طور التشكل ويحتاجون الدعم من أفراد الشعب. وهكذا تسقط العصابتان ويعتلي سدة الحكم ثلة مخلصة استفادت من سنوات التيه التي امتدت من 1962 إلى اليوم، وتبدأ معركة الجزائر التي حلم بها شهداء الجزائر ورسم معالمها بيان أول نوفمبر.هذا هو تصوري لما جرى ولما يجري، ولما سينتهي إليه حال الجزائر، وأرجو أن يكون تصوري يا أخ سعد صحيحا. ولك خالص تحياتي. لعلك تتذكر لقاءنا الذي جرى في نزل الميريديان في الخرطوم سنة 1995 في بهو الفندق.الأستاذ الدكتور الطيب لحيلح جامعة العربي بن مهيدي نعم أتذكر ذلك اللقاء الذي سلمتني فيه رسالة رهيبة بخط يدك لأقرأها وأنت جالس أمامي، وكانت تحت عنوان “رسالة إلى قاتلي”، تحدثت فيها عن نجاتك من مجزرة رهيبة وهروبك بجلدك إلى السودان.وأتذكر أنني عندما أنهيت الرسالة قلت لك بكل رعب الجبان “أنا لا أستطيع أن أقول إنني قابلتك وإنني حتى قرأت هذه الرسالة، لأن الإعلان عن الاطلاع على محتواها يعني الموت المؤكد”.وتشاء الصدف أن يقيّض الله للجزائر رجالا من الطرفين كما قلت ويتم إطفاء النار، وأسافر إلى الحج مع شقيقك عيسى لحيلح، فقص علي نفس الحكاية التي قرأتها في رسالتك بالخرطوم، واليوم أنا سعيد بعودتك إلى والدتك أرملة الشهيد، وعودتك إلى الجامعة في بلدك عوض جامعة الخرطوم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات