هل للإمام عطلة؟ لا ليس للإمام ولا لغيره عطلة، إذ كيف لأحد في هذه الدّنيا عُطلة والأيّام تسوقه سَوْقًا نحو قبره وآخرته ليُجازى عن عمله ! فإذا لم يكن لسائر النّاس عُطلة حقيقية، وليس لهم قدرة على وَقف السّاعات والدّقائق حتّى يتفرّغوا لأمور جانبية ليس لها أثر على الحياة، فكيف يكون لذي بصيرة مثل إمامٍ أو دارس علمٍ أو عالمٍ تعطُّل؟
وعهدنا بهم أنّهم مضرب المثل في استغلال الوقت واهتباله، فهذا ابن رشد الحفيد يقول عن نفسه إنه ما ترك طلب العلم إلاّ يوم بنائه بزوجه (يوم زواجه) ويوم وفاة والده، وهذا عامر بن عبد القيس تابعي زاهد قال له رجل: كلّمني؟ قال: أمسك الشّمس. أي إنّ الزّمن متحرّك يمضي ولا يعود وخسارته لا يُمكن تعويضها، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما ندمتُ على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.وكان من حرص أبي يوسف القاضي على العِلم أن توفي له ولدٌ فوَكَّلَ أمر تجهيزه لأقربائه وجيرانه، حتّى لا يفوته شيء من علم أبي حنيفة فيتحَسّر عليه، وكان قد لازم مجلسه 17 سنة لم يُفارقه في فِطْرٍ وَلا أضْحى. فهذا هو حال أهل العلم في أمر الوقت، وكذا ينبغي لمَن أراد السّيْر على خُطاهم، ليس لهم راحة، ولا فراغ من شغل، بل هم من عمل إلى عمل، ومن واجب إلى واجب، إذا لم يكن وقتهم وقتَ عبادة فهم في ازدياد من علم، وإن هم أخذوا نصيبهم من علم فهم في تعليمه ونشره، فإن هم غُلبوا على جُهدهم استراحوا استراحة المجاهد، لذلك لا ينبغي لطالب العلم ولا لإمام أن تكون لديه فكرة في العُطلة والبُعدِ عن الأخذ أو العطاء، ولا يَقبلُ لأحد أن يصفه بأنّه في عُطلة، فقد قيل: من علامة المقت إضاعة الوقت، ولا ينبغي لمُدركٍ قيمة الوقت أن يكون ممقوتًا.إلاّ أنّ كثيرًا من النّاس صار يخلّط بين العُطلة الوهمية والإجازة الإدارية، والمقصود بالعُطلة الفراغ من أيّ عمل أو شغل، وهي البطالة التي لا يكون صاحبها في شغل دنيا أو آخرة، وهذا ممّا لا ينبغي أن يتّصف به عاقل، والمقصود بالإجازة هي حقّ العامل في التفرّغ من المسؤولية الوظيفية والانقطاع عن العمل واستحقاق الأجرة في فترة الرّاحة السنوية، وهذا منصوص عليه في القوانين العالمية المتعلّقة بحقوق العمل والعمال، وكذا في دستور بلدنا والمعمول به في مجتمعنا، والغرض منه أن يتفرّغ الموظف والعامل لشؤونه العائلية والخاصة، ويبتعد عن أجواء العمل والجُهد البدني والذّهني، ليَستعيد نشاطه وحيويته بعد الرّجوع إلى مركزه فيكون أكثر نشاطًا وإقبالاً، وذا همّة عالية واشتياق إلى الشُغل والانتفاع ونفع المجتمع.هذا هو المفهوم من الإجازة، لكن الّذي يؤسف له في أنّ بعضًا من النّاس وخصوصًا الّذين نحسبهم من المثقفين والمقرّبين في المساجد والّذين يُظهرون أنّهم يُحبّون من الإمام والقائمين على المساجد دوام النّشاط، والحيوية الفائقة، والتّواجد اللّيلي والنّهاري، وهذا يستحيل على الدّوام ومرّ الأعوام، يسوءهم أن يسمعوا أنّ الإمام في إجازة، فربّما حسبوه من الملائكة الّذين يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون، أو من الرُّهبان الّذين انقطعوا في المعابد لا أزواج لهم ولا أولاد.ولو علم مثل هؤلاء ما يلقاه القائمون على تعليم النّاس الخير والّذين يسهرون على توجيه المجتمع في دينهم ودنياهم لصاروا ممّن يُطالبون بإجازتين لا بواحدة، إحداهما مثل سائر الإجازات ليتفرّغ لشؤونه وشؤون أسرته، والثانية لتطوير مهاراته ومراجعة العلوم وزيادة المعرفة ولقاء الدّكاترة والعلماء ليكون أقدر على التّرشيد والإتيان بالجديد، لكن إجازة الإمام الوحيدة الّتي إذا أخذها كاملة فإنّه يُوظّفها في مُلاحظة نقائص نفسه، ويسعى لأن يلتقي بزملائه لعّله يستفيد من تجربتهم، كما أنّه يضع نفسه مكان المصلّين ليُراجع أخطاءه ويكتشف ما يلزم أن يكون عليه مسجده، ولكن أكثرهم لا يعلمون.هذا وإنّ الإجازة والتّرخيص الإداري للإمام في التفرّغ لشؤونه له اعتبار آخر، وهو أن يضبط الإمام تواجده بالمسجد، فإذا كان له ضرورة من سفر أو حاجة من علاج أو استجمام فلا يترك مكانه شاغرًا من غير قائم، فتأتي الإجازة لترفع عنه تلك المسؤولية وتضعها في أيدي أمينة، فيتفرّغ لحاجته ويسعَى في مصالحه دون أن يتأثّر واجب القيام على المسجد، وحتّى تسلم ذمّته من المحاسبة في حال وقوع التّفريط والإخلال، فهل تُلغي هذه الأسطر –وممّا لم يُذكر أكثر- تلك النّظرة السّلبية عن إجازة الإمام؟
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات