+ -

يرجع أساتذة علم الاجتماع والنفس تحوّل شهادة البكالوريا مع حلول كل سنة إلى أشبه بـ “مأساة”، لعوامل متشعبة يتقاسم مسؤوليتها القائمون على قطاع التربية والتعليم، ومعهم وزراء ومسؤولون من قطاعات أخرى، وحتى خلايا اجتماعية، على غرار الأسرة، داعين في سياق متصل إلى ضرورة إعادة النظر في المنظومة التربوية بشكل معمق بعد أن طغت النظرية “الميكيافلية” على “الموعد الوطني” من خلال اجتهاد الكل وهرولتهم صوب البحث عن النجاح بشتى السبل، عملا بمقولة “الغاية تبرر الوسيلة”، بعد أن أفرغت المنظومة من روحها رغم البعد الاستراتيجي لـ“الباك”.يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجيلالي اليابس الحسين محمد الأمين، بأن الحصول على شهادة البكالوريا يبقى المحطة الأهم في حياة أي طالب علم، باعتباره السبيل الوحيد الكفيل بفتح أبواب التعليم العالي والبحث العلمي أمامه. كما أن درجة فرحة نيل الشهادة تفوق بكثير حتى تلك التي تتزامن ومناقشة “الدكتوراه” بشهادة من اجتازوا المحطتين، ما يعكس الأهمية والمكانة الاجتماعية التي يتبوؤها “موعد” اجتياز امتحانات الطور الثالث.ويطرح الدكتور جملة من التساؤلات بخصوص ما تمخض عن امتحانات 2015 و2016 من فضائح، إلى درجة جعلته يجزم بحقيقة مواجهة “الباك” لازمت تفكك في القيم وفي رمزية الشهادة في حد ذاتها، في ظل التسريبات التي كانت على نطاق شامل سنة 2016، زيادة على الاختلالات العميقة التي ظهرت إلى العلن من وسط الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات: “وهو معطى نلخصه بعد نظرة شاملة وموسعة للأمر في التحول الكبير للمجتمع من إنساني مشبع بالقيم إلى مادي بامتياز”.وأدت الأسرة، وهي الخلية الأهم وسط أي مجتمع، دورا رائدا في تحويل موعد اجتياز امتحانات البكالوريا إلى أشبه بـ “مأساة”، وهي التي أوصل “الضغط” بعض مكوناتها إلى حد تشجيع الفرد على الغش لتحقيق النجاح، بغض النظر عن الطريقة (البحث عن النتيجة بأي من الطرق الممكنة). كما أن تهور المسؤولين وإبداء الأساتذة لنوع من اللامبالاة تجاه مستقبل التلميذ، حتم على هذا الأخير التفكير بجدية في “النجاة بجلده باستعمال كل الطرق المتاحة بما فيها الغش”، في ظل ما تمخض عن الاضطرابات التي عاشها القطاع برمته، التي قللت كثيرا من مكانة الأستاذ أمام أعين التلميذ.وبات تراجع مكانة التربية والتعليم وسط المجتمع الجزائري مقارنة بالمعاملات التجارية والمالية، “حقيقة معاشة”، من منظور محدثنا، “وهو مؤثر ساهم في فقدان “الباك” لبريقه”، يقول الأستاذ الحسين الذي راح ينتقد “الرعاة” “بتمييع كل المبادرات الجميلة والرائعة أملا في قتل الإبداع، ما تمخض عنه صراعات قوية بين النقابات.أخصائي علم الاجتماع، الدكتور هواري بلعباس“نسب الناجحين مرادف لنجاح فئة من السلطة” يرسم أخصائي علم الاجتماع الدكتور هواري بلعباس من خلال حديثه عن المنحنى التنازلي لأهمية موعد اجتياز شهادة امتحان البكالوريا، وتحول هذه الأخيرة إلى أشبه بمأساة، لوحة قاتمة عن الوضع، مرجعا التحول الجذري للموعد من حيث الأهمية إلى ربط “الباك” في الجزائر خلال السنوات الأخيرة بالسياسة: “إلى درجة بات فيها مؤشرا من منظور السلطة على مدى نجاح الإصلاحات التي شهدتها المنظومة التربوية”.“وبات ارتفاع نسب الحاصلين على هذه الشهادة مرادفا لنجاح فئة من السلطة، وتمهيدا لبقاء وزراء في مناصبهم لسنوات طويلة، وحتى مؤشرا على استقرار سياسي واجتماعي بغض النظر عن جودة التحصيل العلمي”، من منظور محدثنا، الذي تحدث بنبرة المتأثر عن زمن أضحت فيه الأرقام المنفوخة معيارا لنجاح وزارة معينة، رغم الفضائح التي باتت تلازم الموعد خلال السنتين الأخيرتين على وجه التحديد.وقد ضاعف التناول الإعلامي الغزير لملف “البكالوريا” من حدة الضغوط التي تلقي بظلالها على المشهد الاجتماعي العام مع مطلع صائفة كل سنة، إلى درجة بات فيها “الباك” قضية رأي عام وأمنا اجتماعيا: “وهي معطيات ساهمت في إضفاء الارتباك على الجميع وكشف عورات من تغاضوا عن أداء الأدوار المنوطة بهم انطلاقا من مناصبهم، ما جعل من المأساة ترتسم في الأخير على أوجه كل من لهم علاقة بالملف على اختلاف مستوياتهم”.“وتضاعف شهادة البكالوريا من حظوظ المترشح مستقبلا في نيل منصب عمل محترم”، من منظور الخلية الصغيرة في زمن يشهد فيه عالم الشغل عددا متزايدا من طالبي العمل نظير فرص محدودة للاستفادة منه في الجزائر: “لتبقى هذه النقطة كفيلة بتوليد ضغط وشحنة إضافية غالبا ما تدفع بالتلميذ إلى البحث عن أسهل السبل لتحقيق مراده، ما فسح المجال أمام معركة حقيقية بين أكثر من طرف لأجل الظفر بشرف نيل الشهادة الوحيدة المعترف بها اجتماعيا لتقييم مستوى الطالب، وذلك بغض النظر عن الهبوط العام لمستوى التعليم عندنا”.الخبير النفساني، محمد لوصيف“التضخيم من قيمة البكالوريا حوّلها إلى دراما”يرى الدكتور والخبير النفساني رابح لوصيف، أن قضية التضخيم من قيمة البكالوريا لأكثر من حدّها، من طرف المسؤولين عن قطاع التربية والأسرة والأحداث الحاصلة فيها، حوّلتها إلى دراما، تؤثر بطريقة كبيرة على نفسية التلميذ والممتحن وعلى مساره التعليمي على طول السنة، وخلقت له الضغط والخوف الدائم، تتشارك معه الأسرة والمحيطون به. كشف الخبير النفساني رابح لوصيف في حديثه مع “الخبر”، أن مفهوم البكالوريا لا يتعدى أن يكون امتحانا للتدريب في المسار التعليمي الذي هو جزء من مسار الحياة، والتضخيم الذي أحاط بهذه الشهادة، جعل الفشل فيها يعني عدم القدرة على مواصلة النجاح في الحياة، وهو المفهوم الخاطئ المتداول، كون الإبداع والتفوق يمكن أن يكون في أي مجال خارج المدرسة. وقال الدكتور لوصيف، إن الضغط الذي يخيم على الطالب الذي يجتاز امتحان البكالوريا، يجعله في زاوية لا توازن في الشخصية وتطرح انعكاسات تظهر فيما بعد وتجعله يصل إلى مرحلة انسداد، أو التوجه إلى سلوك آخر بعد الوصول إلى الجامعة. وقال إن كثرة الحديث عن البكالوريا من قبل المسؤولين عنها، من خلال تقديمها وتأخيرها وتأجيل مواعيد، وقضية التسريب في مواقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك”، وبكالوريا مكرر والإعلان عن النتائج، جعلتها أمرا غير عادي وأثرت بشكل كبير على التلميذ والممتحن، وهو ما يطلق عليه بمصطلح “العنف المؤسساتي”، ليضيف أن هذا العنف يتحوّل إلى عنف تربوي داخل الأسرة الذي يمارسه ضد الأولاد على مدار السنة والتحضير لهم مسبقا لهذه الشهادة والبحث عن الدروس الخصوصية قبل الوصول إلى فترة ما قبل الامتحان، الذي يساهم فيها الأساتذة كذلك من أجل الحصول على أكبر ربح، ما جعل التلميذ يغلق على نفسه ويرى أن الضغط اليومي له هو شهادة “الباك” وأصبح يخاف كل تغييرات وأحداث تحصل فيها ويتأثر بها، لأنها تعد أمرا مصيريا في حياته.الدكتور في علم الاجتماع بجامعة قسنطينة 3 أحمد جيملي“البكالوريا أصبحت فضاء للاستثمار”أقر الدكتور أحمد جيملي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة قسنطينة 3، بتحول امتحان شهادة البكالوريا إلى مأساة حقيقية، يعيشها كل أفراد المجتمع، وخرجت من إطارها العادي، حيث أن البكالوريا ما هي إلا قياس معين للمستوى المطلوب للممتحن والتلميذ، قصد الحصول بعدها على تأشيرة الذهاب نحو الجامعة.وأضاف الأستاذ جيملي أن هذا الامتحان الانتقالي من الثانوية نحو الجامعة، أخذ أبعادا أخرى غير تلك التي يجب أن تكون، وطغى عليه البعد السياسي والاجتماعي، وأصبح فضاء للاستثمار من قبل أطراف خارج قطاع التربية وأطراف بعيدة كل البعد عنها، مشيرا في سياق حديثه إلى أن التلميذ في كل ما يحدث هو الضحية فيها، وهو من سيدفع الثمن في الأخير، مواصلا أن الامتحان في الحقيقة هو قياس للمجتمع والبكالوريا لها طابع تربوي تعليمي فقط، إلا أن الإشكال يكمن في أنها خرجت من البيداغوجيا لتحمل تأثيرات وأبعادا على المجتمع ككل. وطالب المتحدث كل الهيئات المسؤولة على العمل التربوي، التفاعل مع التغيرات التكنولوجيا وسرعتها وتأثيرها على هذه الامتحانات، حيث يجب عليها تحديث كيفية إعداد وتحويل الامتحانات وانتقال المواضيع قبل توزيعها بتكنولوجيا مسؤولة بعيدا عن الطريقة الكلاسيكية التي تحترف البطء، لأن كان لها ضرر ثانوي ظهر من خلال التسريبات التي كانت بطريقة سريعة.الأخصائي النفساني، الدكتور سعيد بلحيمر“أصعب مهمة ترميم نفسية الطالب” يرى الدكتور سعيد بلحيمر، أخصائي علم النفس، بأن كل المعطيات باتت توحي بأن المنظومة التربوية قد أفرغت من روحها بعد كل ما طفا على السطح خلال السنتين الأخيرتين، من خلال الفضائح التي تزامنت وموعد اجتياز امتحانات شهادة البكالوريا، مشيرا في سياق متصل إلى تسبب ذلك في “انقطاع الحبل” بين التلميذ وأستاذه “بعد أن بات الأول في نظر الثاني إنسانا عاديا، وليس رمزا للتربية والتعليم”.ويجزم الدكتور بتأثير الصيغة التراكمية على سير الأمور، إلى درجة عاد فيها إلى الفترة التي تزامنت وأول الهزات التي عاشت على وقعها المنظومة التربوية برمتها، مقابل صمت أبدته الأطراف التي كان بوسعها التحرك لاحتواء الأزمة آنذاك: “وهنا يجب الاعتراف بأن المأساة لا تعدو أن تكون سوى تحصيل حاصل لتدهور شامل تعيش على وقعه المنظومة برمتها، ما حول موعد امتحانات “الباك” إلى أشبه بلا شيء”. وقد أدى غياب النظرة الإستراتيجية والاستشراف دورا هاما في الإنقاص من همم الأساتذة، وهو ما حتم لاحقا تصنيف التلاميذ عملا بالعلاقة المتعدية في خانة “ضحايا”، الأمر الذي مهد الطريق أمام هؤلاء للتحول إلى أشخاص “وصوليين” همهم الوحيد النتيجة، عملا بالنظرية “الميكيافلية” القائلة “الغاية تبرر الوسيلة”، في إشارة ضمنية إلى فضائح الغش “وهنا يجب الاعتراف بخروجنا من فضاء نقي إلى آخر ملوث”.“ويقدم المحيط العام لامتحانات شهادة البكالوريا مشهدا مروعا ومخيفا تؤدي مجمل طرقه إلى أشبه بمأساة”، وذلك بفعل الضبابية التي ارتسمت وسط أعين الأجيال القادمة “وهنا نجزم بحقيقة المهمة الأصعب التي تنتظر كل الفاعلين، والمتمثلة في البحث عن السبل الكفيلة بترميم نفسية الطالب، حتى تنجلي تلك الصور القاتمة والمخيفة من مخيلته لعل وعسى أن يسترجع الكل أيام الزمن الجميل، مع أن الأمر يتطلب انتظار سنوات بعدما تمخض عن الحاضر التعيس”، يقول الدكتور الذي جدد الدعوة أيضا للعمل على تثقيف الأستاذ أيضا.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات