قُصّر يتاجرون بأرواح الزبائن ولا نظافة ولا سقف أسعار

+ -

الخياط أصبح يبيع قلب اللوز، و”القهواجي” صار مختصا في تحضير الشربات، قُصّر يبيعون السموم للمواطنين وأسعار تقفز وتنزل لا سقف يضبطها، كأنك في بورصة ولست في سوق خضر وفواكه. مشتقات الحليب ومشروبات غازية معروضة تحت لفح الشمس الحارة، ولا يهم أن يكونوا تجارا قانونيين أو لا، المهم هو التفنن في الغش والتحايل على الزبون وعدم احترام معايير النظافة.قامت “الخبر” بجولة استطلاعية في أرجاء السوق المغطاة 3 ساعات بالحي الشعبي باب الوادي بالعاصمة، ووقفت عند تجاوزات التجار الذين أنشأوا إمبراطورية موازية تتفنن في بيع السموم للمواطنين، في غياب ممثلي مديرية التجارة عن الميدان.“45 ألف للجاجة.. كول يا الزوالي”فوضى وضجيج يملأن أرجاء المكان، أوساخ منتشرة في كل زاوية وحركة الزبائن لا تكاد تنقطع، وبصعوبة كبيرة أخذنا نشق طريقنا نحو السوق المغطاة 3 ساعات، بين الطاولات المنتشرة كالطفيليات في جميع الأزقة المؤدية إلى السوق. دخلنا السوق المغطاة، وللوهلة الأولى بدا لنا الجو هادئا مقارنة بما كان عليه في الخارج، حتى تشعر أنك خارج السوق وليس داخله، وللوهلة الأولى تقف عند تجاوزات التجار الذين يشتغلون بداخله، وما شد انتباهنا أكثر هي محلات بيع اللحوم البيضاء. دجاج تغيّر لونه من الأبيض إلى الأزرق، بعضه معلق في مدخل المحل، وآخر موضوع بأحشائه في صناديق بلاستيكية خارج الثلاجات، وطفل قاصر يقف أمامهم يطلق العنان لحنجرته ويصيح: “45 ألف للجاجة.. كول يا الزوالي”.. وبالطبع الأوساخ والدماء منتشرة في كل زاوية، والقطط تجري عيناها في كل الاتجاهات تتابع كل صغيرة وكبيرة، قبل أن تترك المهمة للجرذان ليلا. قاصر آخر لا يتجاوز سنه 14 سنة يقف أمام ثلاجة زجاجية لعرض اللحوم، والغريب في الأمر أن الثلاجة كانت شاغرة تماما والدجاج كان موضوعا فوقها. وعملا بالمثل الشعبي “الحوت الصغير يجيب الحوت الكبير”.. اقتربنا من التاجر الصغير نستفسر عن سبب عرضه الدجاج خارج الثلاجة عوض داخلها، فرد قائلا: “هو معطل ودرجة الحرارة مرتفعة، فمن المستحيل وضع الدجاج بداخله”.وما يحز في النفس أكثر؛ هو حالة زجاج الثلاجة المقزز جراء الأوساخ الملتصقة به من الخارج، أما بداخله فالأمور سيئة بكثير بعد أن عششت الديدان والحشرات في زواياه.أين الرقابة؟أثناء قيامنا بالجولة الاستطلاعية، ظل سؤال يتبادر إلى ذهني: أين هم أعوان المراقبة وقمع الغش؟ وكيف لهؤلاء التجار أن يشتغلوا في ظروف مماثلة ولا يخافون على تشميع محلاتهم وفقدان مصدر قوت عائلاتهم؟ فوجدنا الجواب عند أحد التجار القدامى في السوق، وهو منسق لدى الاتحاد العام للتجار والحرفيين الجزائريين، ومندوب لدى دائرة باب الوادي، الذي كشف لنا أن السر يكمن في أن خبر حضور فرقة الرقابة ينتشر كالبرق بين التجار، وفي بعض الأحيان قبل 24 ساعة من المداهمة، وبالتالي يغلق التجار المخالفون للقانون محلاتهم، وفي اليوم الموالي تعود المياه إلى مجراها.المحسوبيةوتختلف الأمور من حي إلى آخر؛ فالمحلات التي تشتغل في حي القبة مثلا، مختلفة تماما عن تلك الموجودة في الأحياء الشعبية الكبيرة، على غرار باب الوادي، وهو ما أكدته لنا إحدى الموظفات سابقا في مصلحة حفظ الصحة والنظافة ببلدية القبة، التي اشتغلت أكثر من 8 سنوات رفقتهم، التي كشفت لـ“الخبر” بأنها واجهت عدة مضايقات من طرف مسؤوليها الذين يتوسطون لأصدقائهم ومعارفهم التجار لمنعنا من معاقبتهم، وكم هم كثيرون، على حد قولها، وتابعت قائلة “لا أذكر يوما أنني اقتربت من ذلك التاجر المدعو شيخي، وهو صاحب عدة محلات تبيع اللحوم الحمراء، ومن يقترب منه فسوف يكون مصيره التوقيف عن العمل”.وأوضحت المتحدثة نفسه بأن مهمة المراقبة ليست بالهيّنة: “فبمجرد الخروج إلى الميدان، تغلق جميع المحلات في وجوهنا، وبالتالي نكون مجبرين على مباغتتهم، وبعدها يظل المحضر حبيس مصالح البلدية أين يتم تصفيتها وغربلتها جيدا”.«حتى وإن باغتوك (يقصد فرق المراقبة) وضبطوك تعمل خارج إطار القانون، فلا يعني هذا بالضرورة تشميع محلك”، يتابع المنسق النقابي، قبل أن يضيف مشيرا بأصابعه إلى أحد محلات بيع اللحوم الحمراء الواقعة بجوار السوق: “ها هو مثال حي على ما أقول، ولك أن تسأل أي أحد من سكان الحي؛ فقبل قرابة 3 أشهر قامت السلطات بتشميع محله لمخالفته معايير النظافة وغشه في كمية الشحوم المستعملة في اللحم المرحي”، إلا أن القرار ضرب عرض الحائط، وبعد يومين فتحت أبواب المحل وواصل التاجر نشاطه بصفة عادية، بعد أن توسط له أصحاب النفوذ في القضية.“الشربات تسري في دمائنا”ليس بائعو اللحوم البيضاء والحمراء الوحيدين من يخالفون القانون، بل سرعان ما تتحوّل أنشطة الكثير من التجار خلال شهر رمضان، فهذا خياط أصبح يبيع قلب اللوز، وآخر صاحب مطعم حوّل نشاطه إلى إنتاج وبيع الزلابية، و”القهواجي” أصبح متخصصا في تحضير الشربات وملئها في أكياس بلاستيكية.اقتربت من زبون اشترى لتوه لترين من الشربات، وحاولت جس نبضه حول ما يشاع عن السموم التي تحملها أكياس الشربات، فرد علي متهكما: “ما يقدروش يحبسوهانا، يڤولو واش يڤولو أنا نشربها”، وعلّق صديقه قائلا “هي تسري في دمائنا”.أما عن الأسعار وكيفية ضبطها، فحدث ولا حرج، فالتجار ليسوا ملزمين بوضع الأسعار فوق السلع، وليس هناك سقف يضبطها؛ بل باستطاعة أي كان أن يبيع بالسعر الذي يناسبه مهما كان مرتفعا، وهذا ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى التهاب الأسعار، مثلما هو الحال بالنسبة للدلاع والبطيخ اللذان تجاوزت أسعارهما الحد المعقول، وأصبح يباع اليوم أجزاء مجزئة.إمبراطورية الفوضىإذا كان أصحاب المحلات التجارية يتحايلون على السلطات ويغشون الزبائن، وما يترتب عنه من خطر على حياة الزبائن، فأصحاب الطاولات الفوضوية شكّلوا إمبراطورية موازية بامتياز، لا سجل تجاري ولا دفع ضرائب، بل يدفعون مبلغ كراء المتر أو المترين من الطريق على أبناء الحي وفقط، لم يتركوا مكانا يصلح لعرض سلعهم إلا واستغلوه، في مدخل العمارة.. على الرصيف.. في الطريق العمومي.. المهم جمع المال.مشتقات حليب وأجبان مكتوب عليها “تحفظ في مكان بارد”، وجدناها معروضة في طاولات تحت لفح الشمس الحارة. بيض ومشروبات غازية في قارورات بلاستيكية، هي الأخرى تحت درجة حرارة عالية، وخبز “البريوش” على حافة الطريق التصق فيه الغبار ونال منه الذباب.. “والمواطن البسيط لا يكترث لهذه الأمور، بل همه الوحيد اقتناء مستلزمات المنزل بأسعار تكون منخفضة”، يقول بائع الخبز لـ“الخبر”.                          

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: