وجبـات بـاردة وإفطار برائحة البنزين

+ -

دخلت محطة وقود “سان جورج” بأعالي الجزائر العاصمة على متن سيارتها الفاخرة مشغّلة المكيف الهوائي، وتوقفت أمام مضخة البنزين وفتحت النافذة قليلا ومنحت “البومبيست” مفاتيحالسيارة وورقة نقدية من ألف دينار جزائري، ثم أعادت غلق النوافذ.   اصطفت عشرات السيارات في مدخل المحطة، في انتظار وصول دورها، رائحة الوقود تخنق الأنفاس والعامل الوحيد في المحطة خارت قواه، وهو يتنقل من مضخة البنزين نحو أخرى للمازوت حسب طلبات الزبائن، محتميا بمظلة رأس تقيه لفح الشمس الحارقة. وقفنا برهة نتأمل العامل، وهو شيخ في عقده السادس لم تخفي تقاسيم وجهه البشوش تدمّره من الظروف التي كان يشتغل فيها دون انقطاع. وللوهلة الأولى لدى محاولتنا الاقتراب منه رد قائلا: “راني معمر ولا أريد الخوض في أي موضوع مع أي كان”. حاولنا مرة أخرى الخوض معه في دردشة عله يبوح لنا بما كان يختلج صدره إلا أنه ظل متمسكا بالصمت، يمسك خرطوم البنزين ويستلم النقود من زبائنه بالأخرى، ثم التفت إليّ وقال “صراحة بعض الزبائن يدفعونك إلى كره العمل الذي دأبت على ممارسته منذ أكثر من عشرين سنة، فهذا يركن سيارته بعيدا عن المضخة ولا يزيد إلا من متاعبك، وآخر غابت الابتسامة عن وجهه ويجتهد في استفزازك..”، وبغض النظر عن عوامل أخرى كالصيام وتحمّل الظمأ وحرارة الجو ورائحة البنزين الخانقة. وجبة فطور باردةغيّرنا وجهتنا نحو شرق العاصمة، وبالضبط في محطة خروبة للتزوّد بالوقود، أين التقينا بالعامل أمين جالسا على الرصيف يغسل رأسه بقارورة ماء وملامح التعب بادية على وجهه.واجهنا نفس الصعوبة مع أمين 35 سنة، الذي رفض هو الآخر الإدلاء بأي تصريح لـ “الخبر” بسبب الالتزامات التي تفرضها عليهم شركة “نفطال”، لكن بدأ محدثنا يكشف عن علبة أسراره، واتضح من خلال كلامه أن العمل في المحطة خلال شهر الصيام أنهك كاهله “هذا المساء مثلا سأتناول وجبة فطوري باردة، بعيدا عن الجو العائلي، وفي بعض الأحيان يتعذّر عليّ حتى الحصول على وجبتي، فأضطر لمواصلة الصيام حتى ساعات متأخرة من الليل إلى غاية نهاية العمل”.لكن، يتابع المتحدث، الزبائن لا يحسنون عونك، بل يصرون على دخول المحطة للتزود بالوقود حتى خلال النصف ساعة التي تمنح لنا لتناول وجبة إفطارنا.. “ وقبل أيام دخل أحدهم في معركة مع زميلي ووجّه له وابلا من الشتائم لحظات قبل آذان المغرب، لا لسبب إلا لمحاولته الدخول إلى المحطة بالقوة للتزود بالبنزين”.   مطعم الرحمةأما سليمان وهو الآخر “بومبيست” بمحطة المحمدية، فالحظ هذه السنة أنصفه كون أهل الخير فتحوا مطعما للرحمة داخل المحطة للتصدق على المحتاجين وعابري السبيل، وكانت الفرصة مواتية لسليمان وزملائه لحجز مقعد بينهم، إلا أن محدثنا لم يخف علينا اشتياقه لحنين مائدة العائلة.واصلنا جولتنا الاستطلاعية بحثا عن محطات جديدة ليس من أجل التزود بالوقود بل للتزود بمعاناة موظفيها، فكان لنا حديث مع أحدهم الذي رفض الإفصاح عن هويته خوفا من تسلط مسؤوليه. يقول محدثنا “تخيل أننا محرومون من أتفه الحريات مثل أداء صلاة الجمعة”.وواصل محدثنا يسرد البعض من معاناته “أذكر يوما واجهت زبونة زارت المحطة أثناء صلاة الجمعة، وأعطتني مفاتيح السيارة لأضخ الوقود في خزانها، بينما ظلت هي داخل السيارة تستمع للموسيقى، فثار غضبي ورفضت أخذ المفاتيح طالبا منها النزول لفتح خزّانها بنفسها، إلا أن الزبونة رفضت النزول وأخذت تهدده بضياع منصبه وبأنها بنت جنرال وسيدفع الثمن غاليا، إلى أن غادرت المحطة مفسدة يوم  العامل الذي لم يهضم تصرفها غير المبرر.5 أيام قبل العيد    كان يدفع عشرات الصهاريج الكبيرة والعرق يتصبب من جسمه، وبمفرده ينقلها من محل محطة الوقود بالمحمدية إلى إحدى المباني المجاورة. لا شك أن ريقه جف تماما وبدا التعب جليا على تقاسيم وجهه البرونزي من لفح الشمس التي يشتغل تحتها منذ الساعات الأولى من النهار.يقول الشاب محمد صاحب 35 سنة، وهو عون حراسة بالمحطة، إن الزبائن هم مصدر الصداع الأول والأخير خلال شهر رمضان، خصوصا خلال الأيام الأخيرة قبل عيد الفطر، “يندفع الزبائن على المحطة بلهفة ظنا منهم أن الوقود سينفذ يوم العيد”. وبما أن المحطة كبيرة وبها 3 مداخل، فمهمة أعوان الأمن تتعقد أكثر فأكثر ويصعب عليهم السيطرة على الجميع.يقول محدثنا: “كل واحد يريد المرور الأول وتعم الفوضى داخل المحطة وتصد جميع المنافذ ويصعب علينا توجيههم”، وتابع “السنة الماضية تخطى أحد الزبائن آخر، فنزل من سيارته ووجه له ضربة باستعمال عصى على مستوى رأسه كادت أن تودي بحياته”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: