38serv
كهل يشارف على الشيخوخة، يسير بخطى متثاقلة صوب ثلاجة منصبة أمام محله بساحة مرسى الجميلة في عين بنيان بالعاصمة “لامادراك”، على كفّه طبق فوقه حبّات بوراك.. وبمجرد أن التقطت مسامعه قصيدة للفنان الشعبي المرحوم الهاشمي القروابي المنبعثة من راديو مركبتنا المركونة بالقرب منه، توقف وراح يلوّح برأسه كما لو أنه يستحضر ذكريات شبابه في حي بلكور بالعاصمة الذي ينحدر منه.25 سنة مضت وأنامل العم مصطفى على موعد مع البوراك كلما حلّ شهر رمضان، ففي حديثه مع “الخبر” أول أمس قال “في الشهر الكريم أترك المطبخ بالمطعم المحاذي وأتفرغ لأعد هذه الأكلة الموصوفة بأنها “سلطانة المائدة” وتحجز مكانة هامة في الثقافة الجزائرية خاصة أثناء الشهر الفضيل، وأسعى جاهدا لأن تكون الأكلة في مستوى رغبة الزبائن، خاصة أن سعرها مرتفع نوعا ما مقارنة بالبوراك العادي، فيكون بين 100 دينار ويصل إلى 200 دينار جزائري، وفي متناول الطبقات المتوسطة والعائلات الميسورة الحال. ويواصل محدثنا “يجتمع باعة البوراك في أقصى يمين ساحة المرفأ الجميل يوميا في حدود الثانية زوالا، ويشرعون في ترتيب وعرض ما أعدوا لزبائنهم من هذه الأكلة الشهيرة التي لا تغيب عن موائد الجزائريين خلال شهر رمضان وتعتبر رمزا لصيقا به”.الخطوط والتجاعيد على وجه عمي مصطفى المائل إلى الحمرة تروي أنه قضى حياته في الكدح، وحين سألناه عن تفاصيل يومياته، رد بأنه يهوى الطبخ، بما في ذلك طهي البوراك منذ صغره، وقضى فيه 25 سنة باعتباره هواية وليس فقط عملا، ويحب إتقانه بكل ما تحمله الكلمة من معان، واستشهد بقصة الطباخ الأشهر في العالم الذي أقدم على الانتحار حين اُنتزعت منه نجمة من النجوم التي حققها خلال مشواره المهني.تركنا أنامل العم مصطفى تداعب أوراق بوراكة وفواكه البحر، وقصدنا بائعا آخر جالسا خلف ثلاجته ينتظر زبائنه، يدعى سعيد.. وبدا في جلسته سعيدا وقنوعا بما يمتهن، وتجلى ذلك أكثر في رده على سؤال حول نشاطه “أبيع البوراك منذ 17 سنة وأسهر على تحضيره جيدا بما يتماشى وكل معايير النظافة، ويتوافد علينا الزبائن من البليدة ومن العاصمة، وإن تأخروا فيتصلون بنا عبر الهاتف لحجز حصتهم”، وأضاف “أسعى إلى تطوير وتوسيع دائرة النشاط بخدمة توصيل البوراك إلى المطاعم، وكذلك بتلبية طلبات الزبائن بإحضار كميات متوسطة إلى حيث يقطنون عندما تكون لديهم مناسبات كالأعراس مثلا أو مأدبات خاصة”.قادنا الحديث مع العم سعيد إلى أنواع السلطة المعروضة بجانب البوراك، فقال إنها تحمل مسميات حسب ما تحتويه من فواكه البحر أو أنواع السمك، “فمثلا لدينا سلطة القرنيط التي يبلغ سعرها 1000 دينار وتكون كافية لشخصين، بالإضافة إلى سلطة الحبار وأنواع أخرى يكون سعرها باهظا في المطاعم خلال الأيام العادية، لكننا هنا نبيعها بثمن رخيص ليس كالذي تبلغه في المطاعم الفاخرة”. يواصل محدثنا “يتحول مرسى الجميلة (لامادراك) بعين بنيان إلى مقصد الكثير من العاصميين وسكان البليدة وضواحيهما، ليس للسباحة أو الاستجمام على رمال شاطئه الصغير، وإنما في رحلة البحث عن البوراك المحشو بفواكه البحر ومختلف أنواع السمك الذي يعرضه سكان تلك المنطقة في الساحة قبالة البحر، وكرسّوه تقليدا منذ نحو 20 سنة”.إدمان الزبائنلحظات قبيل أن يرفع المؤذن نداء صلاة المغرب، يشرع الزبائن في التوافد على ما يعرضه الباعة من مختلف أشكال البوراك وسلطة فواكه البحر، يأتون راكبين أو راجلين، ويدخلون في نقاش مع العارضين حول ما إذا كان الصيد المحشو به البوراك طازجا من عدمه، ويلحون كثيرا ليفتكوا إجابة صريحة من الباعة.اقترب شاب إلى إحدى الثلاجات المصطفة في الساحة، وبدا من خلال محياه أنه يعيش عقده الثالث، ويوحي هندامه وثيابه إلى أنه ميسور الحال.. توقف وشرع في تقليب ناظره يفتش على بوراك محشو بالجمبري، وسلطة القرنيط.. وبلهفة بادر البائع بوابل من الأسئلة عما يريد، بحيث بدا غير مستعد للنفي.. وما هي إلا دقائق حتى جيء له بما يريد.وقال شاب آخر في حديث جانبي مع صديقه بأنه ربط علاقة مع أحد الباعة، سمحت له بحجز حصته من البوراك عبر الهاتف، خاصة عندما تثنيه أشغاله عن المجيء باكرا، وحينها يقوم البائع بتخزين حبات من البوراك جانبا حتى يأتي.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات