+ -

 تبقى لشهر رمضان الفضيل نكهته الخاصة عند أهلينا في البدو بولاية الجلفة، وتبقى العادات القديمة متأصلة، سواء ما تعلق بطريقة الاستعدادات وتخزين المواد الغذائية، أو في السهرات الرمضانية، وإشعار بعضهم البعض بوقت الإفطار من خلال إشعال نيران في أعلى ربوة، والاعتماد على صياح الديك في وقت الإمساك، وتناوب أفراد الأسرة من الرجال على تتبع الأغنام خلال ساعات اليوم، على خلاف ما كان معمولا به في الأيام العادية.تحضيرات تبدأ قبل أسابيعيتساءل الكثيرون عن رمضان أهل الريف وسكان البدو الرحل أو المقيمين على حد سواء: كيف يستقبلونه؟ وما هي أهم التحضيرات؟ وكيف تكون يومياتهم ولياليهم مع الشهر الكريم؟ وهل لشهر رمضان نكهة خاصة كما في الحواضر والمدن؟ وهل يجد سكان البدو صعوبة فيه باعتبار أن الوسائل الحديثة وتكنولوجيا تخزين وتصبير المواد أو تبريدها لا تتوفر لديهم؟أسئلة عديدة حملناها للكثيرين من سكان البدو الذين اختاروا العيش بعيدا عن ضوضاء المدينة، تتبعا للماء والكلأ من أجل ماشيتهم، بيّنت لنا مدى تمسكهم بعادات توارثوها عن الآباء والأجداد، بداية من الاستعداد للشهر الفضيل بطحن مادة “الفريك” من طرف النساء بمطاحن مصنوعة من الحجر تقليدية الصنع، تعمّر عشرات السنوات إن لم نقل قرونا، ثم تخزين ما تم طحنه في أوعية جلدية مصنوعة من جلد الماعز أو صغار الضأن. وأما اللحم “يخلّع”، وطريقة “تخليعه” كما حدثنا البعض تبدأ من ذبح شاة أو شاتين ثم سلخها وتنظيفها جيدا، وانتزاع ما استطاعوا من عظامها، وبعد ذلك يوضع اللحم في الماء والملح بعد تشريحه جيدا بالسكين حتى يتغلغل الملح إلى كامل أجزائه، على أن يبقى يومين أو ثلاثة، ثم يُؤتى بالزيت فيوضع في إناء كبير جدا ويغلى اللحم بداخله إلى أن ينضج في الزيت، ثم يخزّن في أوانٍ من الطين كبيرة، وتستخرج منه المرأة حاجتها عند الطهي على مدار أيام أو أسابيع.ويعرف هذا اللحم عندهم “الخليع”، وهو لا يفسد ولا تدخله أنواع البكتيريا مهما كانت، ويحافظ على مذاقه وطعمه وفائدته مدة طويلة جدا.وأما الخضروات فتشترى عندهم قبيل دخول شهر رمضان الفضيل بأيام، وتختار من الخضروات المقاومة للحرارة مثل البطاطا والقرنبيط أو اللوبيا، كما يقتنون الزبيب والتمر بكثرة. وأما الكسكسي فلا تخلو خيمة من مخزون كبير يصل إلى قناطير تعدّه النساء من قبل حلول شهر رمضان بشهرين أو أكثر.وأهم ما يحضّر أيضا من طرف النساء “القربة” التي هي أيضا من جلد “الماعز”، ولها طريقة خاصة في صناعتها وإعدادها، باعتبارها وسيلة لتبريد المياه، وعادة ما تكون مدعمة بمادة “القطران” الذي يعطي للماء ذوقا معينا.وأما معرفتهم بدخول الشهر الكريم فهو من أسهل الأمور بحكم أنهم يتعاملون في حياتهم اليومية بالتاريخ الهجري، ويراقبون حركة الأهلّة شهرا بشهر، لذا فهم يعرفون ليلة الشك، وما عليهم إلا الاستماع إلى المذياع.يوميات وسهرات أهل البدو في رمضانويعتبر المذياع عندهم أهم وسيلة تربطهم بالعالم الخارجي، ومن خلالها يعرفون مواقيت الإفطار والإمساك، لكن مع ذلك يتعاملون في إشعار بعضهم البعض بدخول وقت الإفطار، بإشعال نار في أعلى ربوة يشعلها من يسمع الآذان في المذياع، فإذا ما رآها القاطنون من بعيد علموا بأن وقت المغرب قد حان، مع استغلال الهواتف النقالة في تبليغ بعضهم بعضا، وساعتها يفطرون. هذا في حال وجود خيم متباعدة عن بعضها البعض، أما في حال وجود الخيم إلى جانب بعضها البعض فإنهم يكلفون من يقرأ القرآن الكريم، ولو حزبا واحدا، بتتبع مواعيد الإفطار والإمساك، ويقوم بالآذان لصلاتي المغرب والعشاء، كما يؤذن لصلاة الفجر ويشعر الناس بقرب وقت الإمساك.وأما أهم وجبات سكان البدو فهم يقومون باستخراج النوى من حبيبات التمر ووضع جزء من زبدة البقر مكانها، فيحتسونه مع اللبن لحظة الإفطار ولا يحيدون عن حساء الفريك، وطبق آخر قد يكون بطاطا مع اللوبيا الخضراء أو القرنبيط، ولعل أهم فاكهة يعتمدون عليها إن توفرت هو البطيخ البلدي أو الدلاع.وبمجرد أن ينتهوا من الإفطار تأتي القهوة مع الحليب، والغالبية عندهم يتناولونها دون حليب، بحيث ينتظرون موعد صلاة العشاء عند شيخ العشيرة أو “الكبير” الذي يختارونه للصلاة عنده داخل الخيمة أو خارجها حين يكون الحر. وبمجرد أن تنتهي صلاة العشاء والتراويح، يشرع في تنفيذ برنامج المكلفين بالحلويات والمشروبات للسهرة، فكل ليلة يكلَّف شخص أو اثنان بطبق من الحلويات التقليدية مثل “البغرير”، ومعه القهوة أو الشاي، فيقضون بعض الوقت في السمر والأحاديث والقصص، وإلى جانبهم الصغار والفتيان يستمعون جانبا منها، في وقت تتبادل النساء أيضا السهرات خاصة إذا كانت الخيم متجاورة، وبعدها يتفرقون كل إلى خيمته ليخلد إلى النوم قليلا، وعادة ما يربّون الديكة لأنها توقظهم بصياحها عند اقتراب الفجر، أو من خلال المؤذن المكلّف الذي يسمونه الطالب، فيستيقظون للسّحور الذي يكون طبقا من الكسكسي ومعه الحليب، ثم يصلّون وينامون قليلا ثم يعاودون النهوض من جديد إلى أغنامهم.ولأن رمضان هذا العام تزامن مع فصل الصيف والحرّ، فإن رجال كل أسرة يضعون توقيتا خاصا يتناوبون فيه على رعيها وتتبعها طوال اليوم، بحيث تبدأ الفترة الصباحية من السادسة صباحا إلى غاية منتصف النهار، يتولاها فرد من الأسرة فيقوم بتوريدها الماء ثم الرعي بها في الأماكن المعشوشبة أو التي بها أكل، وتكون الفترة الثانية من منتصف النهار إلى ما قبيل المغرب، حيث يعود بها المكلف الثاني إلى مضاربها بجوار الخيمة فتحلب الشياه أو الأبقار من طرف النساء، وهكذا تمضي يوميات البدو مع شهر رمضان إلى غاية قدوم عيد الفطر.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات