عمرها الذي تجاوز عتبة الثمانين لم يكن سببا للسأم والملل، نحافتها لا يمكن أن تكون سببا للازدراء لأن قلبها يسكنه أسد هصور، قوة لا يدركها إلا من رافقها ولو للحظات ليعرف أنها امرأة غير عادية، لا تعترف إلا بما تؤمن به.. عشقت الحرية وهي في أول العمر وشابت وكهلت، بل وشاخت على نفس الحب الذي لم تفارقه ولم يخذلها. هي تتحدث معنا بنبرة حادة وبكلمات متقطعة، لكن بنظرات ثاقبة تزرع الخوف في نفس من يقف إلى جانبها، لأنها كما تقول “كل جيوش الدنيا لا يمكن أن تنجح في تغيير مواقفها والنيل من عزيمتها في الوصول إلى حيث تشاء”، والسر في كل هذا أنها رضعت من ثدي جبال الأوراس والقبائل الشجاعةَ والشهامة والصلابة في التعامل مع الخصوم..مارفين هواي بصدد تحضير كتاب حول كفاح النساء في الجزائر وبلدان أخرى، خاصة ضحايا الحروب والنزاعات، ولها في ساحات الوغى ومنابر الكلام والسياسة قصص كثيرة، ولها قصة مع الثورة الجزائرية وأبطالها مصطفى بن بولعيد وكريم بلقاسم وآيت أحمد وامحمد يزيد، وكذلك الصحافة العالمية والرئيس باراك أوباما والمترشح لرئاسيات أمريكا دونالد ترامب..كانت تسألنا عن واقع الصحافة في الجزائر، وبالتحديد حول قضية “الخبر” ووزارة الاتصال، وكانت قلقة جدا على العمال وعلاقتهم بالمالك الجديد لمجمع “الخبر”، وما إذا كان سيحترم الخط الافتتاحي للجريدة، أم أن الصحفيين متخوفون من حدوث تغيير في الخط، وعن أسباب إصرارهم على مواصلة النهج الموروث من شهداء الجريدة..أسئلة كثيرة طرحتها قبل أن تفتح لنا صدرها لتروي بعض مغامراتها، جوابنا أراحها لما طمأنها بأن العمال في “الخبر” يريدون الحفاظ على أرزاقهم والدفاع عن حرية التعبير التي هرموا من أجلها، وقالت إنها ستلتقي بمدير الجريدة من أجل التعبير عن تضامنها مع مجمع “الخبر”.علاقتها مع الصحافةوحول قصتها مع الصحافة، قالت مارفين هواي إنها كانت مولعة منذ صغرها بهذه المهنة النبيلة التي كلها تحديات ومغامرات، وهو ما جعلها تلجأ إلى تعلم العديد من اللغات العالمية.. “الصحافة كانت فرصة حياتي من أجل تحقيق التزاماتي، فكرتي كانت واضحة، حسي الفضولي فعل البقية.. لهذا السبب بدأت دراساتي الجامعية بمعهد كولومبيا حيث درست اللغات الشرقية، تمكنت من صقل مواهبي ومعارفي وصقلت أفكاري لخوض غمار أتعب وأمتع مهنة في العالم.. كانت البداية في صحف محلية كمتعاونة، طلب مني تنشيط الصفحات المخصصة للنساء، وكان رؤساء الأقسام يفضلون رؤية بصماتي في الأركان الخاصة بالموضة، وهو ما لا أحبذه تماما، أفضل الفضاء الواسع، حيث أفجر طاقاتي، وإنجاز تحقيقات وريبورتاجات ولو في مناطق الحروب والنزاعات، لكن المسؤولين لم يوافقوني الرأي، متحججين بخطورة مثل هذه المهمة على النساء”.قررت هرفين بعدها مغادرة الصين والتوجه إلى باريس، حيث التقت بصديقتها وزميلة الدراسة فابيوس ماري كلود التي تنتمي عائلتها إلى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الألماني، وهو الوسط الذي تتمناه وتحبذه. وعملت كمراسلة لليومية الأمريكية “هيرالد تريبون” التي تحولت بعد ذلك إلى “نيويورك تايمز”، قبل أن يقرر مسؤولو الجريدة تحويلها إلى المغرب لتشتغل كمراسلة، وكانت فرصتها لتعلم اللغة الفرنسية وتعليم الانجليزية لأطفال مدينة فاس.وحول هذه المرحلة من حياتها تقول هرفين “كنا في منتصف القرن الماضي ولا أعرف الكثير عن إفريقيا، لكني عرفت أن الشعوب لم تكون مطمئنة للاستعمار، وعن بداية تبلور الوعي الوطني والحديث عن الحرية والاستقلال. تعرفت على قادة التمرد الشعبي، منهم علال الفاسي صانع الثورة ضد الفرنسيين بعد نفي الملك محمد الخامس إلى مدغشقر، كنت أشتغل صحافية بإذاعة المغرب الخاضعة لسلطة الحماية، ربما حيادي والتزامي جعل نيويورك تايمز تشك في قدرة امرأة على تغطية أحداث الحرب، وهو ما دفعني للانتقال إلى يومية “سي بي أس نيوز” التي فتحت لي كل الأبواب لأنتقل بذلك من المغرب إلى الجزائر، رغم شعوري بأني لست مُرحَّبا بي في الجزائر العاصمة من الإدارة الاستعمارية، وكان ذلك في سنة 1956”.الثورة الجزائرية مصدر إلهام الصحفيين والمثقفين في العالم “دخلت الجزائر في نفس التوقيت الذي التحق فيه الكثير من القادة الكبار بالثورة، تعرفت على بعض المراسلين والمصورين الذين قدموا لي يد العون، كما تعرفت على بعض قادة الثورة، وحتى الفرنسيون اليساريون المتعاونون مع الأفالان كانوا بمثابة سند قوي بالنسبة لي، ووضعوا ثقة كبيرة في شخصي، تعرفت على جمال شندارلي مصور يومية أمريكية، وتعرفت كذلك على المناضل الوطني الكبير عبد الرحمن كيوان الذي كان يعلمني اللغة العربية وأعلمه اللغة الإنجليزية، وحدث أن تعلم هو الإنجليزية ولم أتعلم أنا العربية بسبب مضايقات الاستعمار وتحرشات الشرطة التي كانت تلاصقني في جميع تحركاتي، وكذا رحيل عبد الرحمن إلى القاهرة.. آيت أحمد وامحمد يزيد علماني مبادئ الثورة وأهدافها وأنا في نيويورك، وعبد الرحمن كيوان عمَّقها أكثر، وبفضلهم جميعا استطعت أن أبني فلسفتي في طريقة تغطية الحروب إعلاميا..”. واعترفت مارفين أن أجمل الأيام التي قضتها مع الثورة كانت في الأوراس والقبائل، فقد أبهرها الاحترام المتبادل بين رجال الثورة ونسائها والانضباط الذي يفرضه القادة الكبار.حلم محاورة البطل بن بولعيدوكانت مارفين قد تحصلت على موافقة مبدئية من مصطفى بن بولعيد، عن طريق محاميه محمد بن معلم، لإجراء حوار صحفي معه في الجبل، وانتقلت إلى الأوراس حيث مكثت عدة أيام في انتظار لقاء بن بولعيد، إلا أن الأقدار شاءت غير ذلك، فقد أبلغها مسؤولو الولاية أن مصطفى قد رحل عن هذه الحياة شهيدا.استطاعت مارفين من خلال الثقة التي اكتسبتها من القادة أن تتوغل في عمق الثورة، من خلال دخول “الكازمات” بكل حرية، ولقاء قادة وضباط ساهموا كثيرا في صناعة اسمها، وقالت إنه بفضل مساعدة هؤلاء، وخاصة آيت أحمد، أصبحت مكانتها كبيرة في شبكة “نيويورك تايمز” التي قررت فتح مكتب لها بتونس، حيث يتواجد مقر الحكومة المؤقتة، وكان يرأسه الصحفي توماس برادي، وهو الصحفي الوحيد الذي كان حاضرا في سفرية الطائرة التي كانت تقل القادة الخمسة من المغرب إلى تونس وكان موضوع القرصنة الرسمية الذي فتحت به الجريدة دويا في سماء أمريكا والعالم.وأكدت مارفين أن الكتاب الذي تعده سيتضمن نصيبا كبيرا من هذه المرحلة بالنسبة للجزائر، ويجمع أكبر قدر من المعلومات، وترجو أن يصدر الكتاب قبل أن يدركها الأجل.كفاح المرأة الجزائرية.. خطوات معتبرةمارفين التي عرفت المرأة الجزائرية خلال الثورة التحريرية، تريد أن تعرف ما بلغته اليوم من نضال وكفاح من أجل إثبات الذات، وقالت “عرفت النساء سنة 1956 أيام الثورة مجاهداتٍ، مناضلات، مسؤولات.. وأريد أن أعرف ماذا بلغن سنة 2016، وأعتقد أن ما حققته المرأة الجزائرية عظيم جدا بالمقارنة مع واقع نساء أخريات في بلدان شقيقة وصديقة، وهذا هو هدفي الأول خلال الزيارة التي أقوم بها إلى الجزائر اليوم. تعرفت قبل الثورة على المناضلة الكبيرة مريم شنتوف التي أسست أول اتحاد للنساء المسلمات، وتعرفت سنة 1957 على شفيقة مسلم أول امرأة دبلوماسية عرفتها الجزائر، وكنت عرّابة ابنتها سعاد وقمتُ بتغطية محاكمتها سنة 1957 في إطار ما سمي آنذاك محاكمة التقدميين. في سنة 1975 قمت بتغطية أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران التي تعد أول وأكبر نجاح للدبلوماسية الجزائرية، وكان ذلك بطلب من المناضل والمجاهد امحمد يزيد.وفي نفس السنة عدت إلى الجزائر لتغطية أحداث الصحراء الغربية، وفي المقال الذي كتبته توصلت إلى قناعة أن الشعب الصحراوي شعب حر، لا مغربي ولا جزائري، ولهذا فأنا من دعاة الطرح الأممي لحل القضية الصحراوية عن طريق تنظيم استفتاء حول تقرير مصير الشعب الصحراوي”. “إذا فاز ترامب برئاسة أمريكا فسأطلب الجنسية الصينية”!عميدة الصحافيين الاستقصائيين تحدثت مطولا عن السياسة الدولية والتحديات التي تواجه شعوب العالم، وقالت إن الأمريكيين لا يعرفون الكثير عن المسلمين، سوى انحرافات داعش والقاعدة وغيرها، وهو ما تحاول تغييره من خلال المقالات التي تنشرها حاليا وهدفها من الكتاب الذي تريد نشره.وحسب مارفين فإن الرئيس باراك أوباما حاول القيام بأشياء جميلة وعادلة، لكن يجب تصور حجم الضغط الذي يواجهه من لوبيات داخلية، ولا بد أن يميز الناس اليوم بين سلطة السلاح وسلطة الإدارة. وقالت إن المترشح الحالي ترامب كثير الحركة والتقزز، واستبعدت فوزه بالرئاسة، لكن إذا حدث أن وطئت قدماه البيت الأبيض فهي لن تتردد في طلب الجنسية الصينية. مارفين هواي في سطور ولدت مارفين هواي سنة 1935 بمدينة شنغهاي الصينية من أب مدرس للكيمياء بإحدى الثانويات، هي معجبة بالصين وكانت ترغب في البقاء، لكن تطورات الحرب العالمية الثانية والغزو الياباني لآسيا الجنوبية عجل بعودة العائلة إلى أمريكا، لتكون الفرصة لمارفين لمواصلة دراستها، حيث اختارت التكوين الصحفي.ألَّفت مارفين كتابين وهي مراسلة لنيويورك تايمز، أحدهما بعنوان “الإسلام، الصراع الآخر” و “تركيا اليوم”، وهي اليوم في الجزائر لاستكمال ما تبقى لها من معطيات لإصدار كتابها الأخير حول كفاح المرأة.نزلت قبل يومين ضيفة على نساء مدينة يما قورايا اللواتي قمن بتكريمها أحسن تكريم، ورافقنها لوضع إكليل من الزهور في النصب التذكاري لحرية التعبير ببجاية، وتفقدت النصب التذكاري للرئيس البرتغالي السابق مانويل تكسيرا قوميز، والغرفة التي كان يقيم فيها بفندق النجمة طيلة تواجده ببجاية من سنة 1931 إلى 1941.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات