+ -

 هل حال المسلمين في رمضان إلاّ قلوب خفاقة، وعيون مهراقة، وأنفس إلى لقاء ربّها مشتاقة؟ وهلّ حال المسلمين في رمضان إلاّ دعاء وصلاة وصدقات وزكاة وتسبيح وتهليل وذِكْرٌ للمولى ومُناجاة، وهلّ حال المؤمنين في رمضان إلاّ توبة واستغفار، وتشبّه بالأبرار، واقتفاء لهدي ومنهج سيّد الأخيار.في رمضان أنزل الله القرآن، ونصر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم يوم الفرقان، في رمضان أعزّ الله جنده، وأنزل كتابه، ونشر كلمته، وفيه ليلة ليست ككلّ اللّيالي، فأوّل أحوال المؤمن مع رمضان التذكُّر والتّفكّر في عظمة الخالق سبحانه، فكم مرّ على النّاس قبلنا من شهور عديدة وأزمنة مديدة، وقرون متعاقبة، وأيّام متواصلة، منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم، وسيبقى الأمر كذلك إلى قيام السّاعة، سنن لا تتبدّل، وصبغة لا تتغيّر: {سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}، فسبحان مَن خلق كلّ شيء فأحكم خلقته، سبحان مَن يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، سبحان مَن نعَتَ نفسه العليّة بقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. فكم أحدثت عظمة الله في قلوب أصحابها من إقبال على الطّاعات وإحجام عن المعاصي والسيّئات، وكم أحدثت عظمة الله في قلوب المؤمنين من إقبال عن الله وإعراض عمّا نهى عنه سبحانه، وكم أعقبت لهم عند ربّهم من خاتمة حسنة ومَرَدٍّ غير مخزٍ ولا فاضح، وبُشرَى من ربّ العالمين وأرحم الرّاحمين جلّ جلاله. فأوّل أحوال المؤمن في رمضان أن يتذكّر، في مرور اللّيالي والأيّام وتقلّب الدّهور والأعوام، الخالقَ الباري الّذي خلق هذا الخلق وسيّره كيفما يشاء، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء.ومن أحوال المؤمنين في رمضان أنهم ما أن يبدو هلاله إلاّ نظروا إليه كما نظر إليه من قبلُ سيّد الأوّلين والآخرين صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون كما أثر عنه “ربّنا وربّك الله، اللّهمّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسّلامة والإسلام”، فإذا ذكروا ذلك خافوا على أنفسهم ألاّ يوفَّقوا في هذا الشّهر إلى عمل صالح، خافوا على أنفسهم أن يدركهم الأجل قبل أن يتمّوا صيام شهرهم، خافوا على أنفسهم أن يردّوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله، خافوا على أنفسهم أن يكون حظّهم من صيامهم النّصب والتّعب، خافوا على أنفسهم أن لا تقبل لهم طاعة، ولا ترفع لهم كلمة طيّبة ولا عمل صالح، فلجئوا إلى ربّ العالمين، لجئوا إلى مَن فرَّج عن موسى وهارون وأنجى نبيّه ذا النون، أن يُوفّقهم إلى الأعمال الصّالحة وأن يتقبّلها منهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}. ومن أحوال المسلمين في رمضان أن يعلموا أنّ الصّوم من أجَلِّ القُربات، ومن أعظم الطّاعات، فقد صام نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يفرض عليه صيام رمضان، وجاء في الآثار أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام لمّا واعده ربّه أربعين ليلة صام تلك الأيّام، وصام أنبياء الله من قبل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}.ومن أحوالهم في رمضان ذِكْرُ ربّهم سبحانه، فذكره أُنْسٌ للسّرائر، وحياة للضّمائر: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وممّا تجدر الإشارة إليه أنّه في شهر رمضان تجدّد كثير من المسؤوليات، تجدّد مسؤولية الأب المسلم مع أبنائه في أن يدلّهم على الخير ويحثّهم على مواطن الرّشاد، ولا يكن همُّ المؤمن أن يتخلّص من أبنائه بحجّة أنّه يُريد أن يتفرّغ للعبادة، بل ينبغي عليه أن يُعلّم أبناءه ما لهذا الشّهر من مكانة سامقة وأهميّة بالغة.

إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات