+ -

الكثيرون قضوا نحبهم في البحر ولم تسعفهم الظروف لركوب قارب النجاة والعودة، وقليل من ساعفهم الحظ لتطأ أرجلهم اليابسة مرة أخرى، ليكتب لهم عمرا جديدا بين الأحياء، ولكل منهم عبرته في النجاة، غير أن ما يتفق عليه هؤلاء أن للبحر مخالب قد يكشّر عنها في أي لحظة.

تكلم البحر يوما فقدم للناس وصية “لو تعلمون ما أخفيه لما اقتربتم مني يوما”. عبارة يرددها كثير من الناس ليعبّروا بها عن خوفهم من البحر من أمثال مراد أسرحان، 38 سنة ابن بلدية تيبازة، صاحب قارب نزهة منذ سنة 2000 بميناء تيبازة، وهو أحد الناجين من الموت منذ 16 عاما، كتبت له الحياة بفضل سكين كان يحمله في رحلة غطس لصيد السمك بسواحل بلدية مسقط رأسه.المغامرةيتحدث مراد عن الحادثة وكأنها وقعت بالأمس “كانت صبيحة يوم دافئ من شهر ماي، عندما خرجت رفقة صديق لي في رحلة صيد سمك مرتديا لباس الغطس، ولم أكن أتوقع أن مداعبتي لمياه البحر الهادئ يومها قد تنقلب إلى مغامرة كدت أدفع فيها روحي ثمنا” ويسترسل “كنت أصطاد على بعد نحو 1 ميل بحرية وقضيت قرابة 3 ساعات بين السطح والأعماق في عرض البحر بين ساحل منطقة بلحاسين “كاروبي” وشنوة الشاطئ، عندما فاجأني شد عضلي على مستوى رجلي اليسرى، وهو ما كان كافيا لأغرق وأصارع الموت لعدة مرات كنت أنزل فيها إلى الأعماق وأجمع قواي لأدفع بجسدي إلى السطح “كانت لحظات حاسمة في حياتي، ولم يكن بوسعي الاستنجاد بصديقي الذي كان على مسافة بعيدة، ففكرت في تمزيق مكان الشد لأتخلص منه فلم ينقذني من الموت سوى السكين الذي كنت أستعين به في صيدي”. تعاقب السنوات، لم يكن كافيا لتخفيف الصدمة عن مراد، الذي لا يزال يتذكر ما حدث له في عرض البحر، وكأنها اللحظات الأخيرة من حياته، مع أنه تعلّم مهارات السباحة في سن السادسة وأنقذ العديد من الغرقى وانتشل جثثا منهم، ليتخذ قرارا بعدم المغامرة مجددا في الغطس ولسان حاله يقول “نجوت من الموت بأعجوبة، من يومها وأنا أسبح على الشاطئ بحذر ولا أصطاد السمك” وختم “أصبحت أخشى البحر حتى في ذروة هدوئه فقد يغرق الإنسان من دون سبب فالبحر لا يعترف بالسباح الماهر”...رمى بنفسه لإنقاذ غريقلم تعد علاقة “رشيد.ح” 46 سنة، مع البحر كما كانت عليه قبل عقد من الزمن، بعد أن تحولت من علاقة ود ورومانسية إلى علاقة مثقلة بالحذر، قبل هذا كان رشيد وهو ابن قطاع السياحة الذي قضى فيه 22 سنة من حياته وبقدر حبه للسباحة، متمسكا بقصبة الصيد التي كانت ترافقه إلى الشواطئ الصخرية لساحل تيبازة، لكن ذلك كان من الماضي بعد “القطيعة” التي كانت نتاجا لحادثة غرق لم يكن سببا فيها بقدر ما غامر بحياته لإنقاذ الآخرين.يقول رشيد، أنه لا يقوى اليوم على دخول البحر وحيدا ولا إنقاذ الغرقى لوحده، مع أنه كثيرا ما قام بذلك، شعور تولّد في نفسه بعد أن كاد أن يفقد حياته غرقا، وهو يحاول إنقاذ شاب بالشاطئ الصخري بين الحظيرة الأثرية لمدينة تيبازة ومركب مطاريس، “كان ذلك في يوم من شهر جوان قبل 10 سنوات”، يقول رشيد “يومها كنت على صخور الشاطئ أصطاد السمك عندما فاجأني صراخ فتاة تطلب النجدة لرفيقها الذي ابتلعه البحر على بعد 6 أمتار من الشاطئ، ولم يكن يظهر منه سوى أصابع يديه وهو يحاول التمسك بخيط رفيع من خيوط العودة إلى الحياة في منظر لم يترك لي لحظة للتفكير، فألقيت بنفسي لنجدته”، كانت تجربة قاسية بالنسبة لابن مدينة تيبازة الذي أضاف” أذكر مظهره جيدا وأكاد أسمع استغاثته عندما تلمّس جسدي التصق بي لنهوي معا إلى الأعماق، ولحسن حظي وحظه أني قوي البنية، وكانت لدي خبرة في إنقاذ وإسعاف الغرقى” ومع هذا يضيف رشيد “عانيت كثيرا لأضع قدماي على اليابسة حاملا معي الغريق وأنا أرتعش خوفا بعد أن فكرت في لحظة ما أنني سأموت في أعماق البحر”.كيف واجه عمي علي الموت؟رغم كبره سنه وقربه من 77 عاما، يذكر عمي علي، تفاصيل مثيرة عن حوادث غرق فصل فيها القدر بين موته وحياته، كانت أولاها في صبيحة يوم حار من صائفة 1955 حيث توجه يومها للشاطئ الصخري المعروف بالحمامات بساحل تيبازة للسباحة رفقة مجموعة من أترابه وهو في سن السادسة، وفي لحظة عدم تقدير لعمق المياه، وجد نفسه يواجه الغرق، ويروي تفاصيل نجاته “تلمست برجلي صخرة بقاع البحر لأرتكز عليها وأدفع بجسدي وسط المياه، لكن وجدت نفسي وسط صخور بحرية أبعد منها إلى الشاطئ، أين قضيت يوما كاملا أترقب النجدة، فيما عجز أصدقائي عن نجدتي وقرروا التخلي عني والعودة إلى الديار” مردفا “لم يكن لديّ خيار سوى المغامرة فسخّرت كل قوتي للدفع بجسدي نحو الشاطئ الصخري لأنجو وحققت مرادي، لكن دفعت دمائي التي نزفت من بطني وصدري المتمزقين ثمنا لذلك”.ولم تكن تلك المرة الأخيرة بالنسبة لعمي علي، الذي كاد أن يغرق، فهو في سن الـ20 عاش مغامرة رسمها أصدقاءه عندما قرروا الابتعاد عن الساحل سباحة للوصول إلى سفينة كانت على بعد أميال بحرية “لتخر قواي، مما دفعني إلى العودة وانتابني إحساس بالغرق قبل الخروج، فاستعملت كل مهاراتي لأنجو، وأذكر كيف كان القدر رحيما بي عندما رميت بي الأمواج بين الصخور البحرية، وعندما عاد لي وعيي لم أصدّق بأنني حي”، من يومها لم يعد البحر في مخيلة عمي علي صورة وردية لأن هدوء البحر لا يعني رضاه، كما لا يعني دائما الهدوء والراحة، لأنه قد يبتلع رائده في أية لحظة.ياسين... خيانة الأصدقاءواجه الموت في عرض البحر مع رفقائه الثلاثة، في رحلة لتنظيف الشواطئ برمجتها الإذاعة المحلية بمستغانم خلال الأيام القليلة الماضية، كانت أمواج البحر الذي قاومه ياسين وفشل واستسلم للموت لكن قدرة الله أنجته من الغرق في آخر لحظة. اتصلنا بياسين عزوز من بلدية بوقيرات ذو 13 سنة الذي كانت تعابير وجهه ونبرات صوته المتقطعة من شدة الألم، دليل على شدة الصدمة التي أصيب بها، يروي مأساته قائلا: “طلب منا منشط المركز الثقافي، بأن نستعد غدا للمشاركة في حملة تنظيف شاطئ صابلات، كانت فرحتي كبيرة أن أذهب إلى البحر بعد سنة شاقة من الدراسة. ففي حدود الثانية زوالا وبعد انتهاء مهمتنا، قررت مع زملائي أن نسبح قليلا قبل المغادرة. في البداية كان كل شيء يدعو إلى الاطمئنان، السماء صافية والبحر هادئ، لكن فجأة أرانا البحر وجهه الثاني، كانت الرياح قوية كان علو الموجة كبير بمجرد أن دخلت أحسست بقوة التيار يجذبني إلى العمق، فلم أتمكن من التحكم في حركاتي ورحت أصرخ، فظن أصدقائي أنني أمزح، لكن فيما بعد لاحظوا بأنني جاد، لكنهم ابتعدوا عني، قاومت لكن خارت قواي وأيقنت أنني ميت لا محالة... كان شريط حياتي يعرض بين عيني بسرعة فائقة.. فتذكرت أمي التي أعطني المنشفة وسقطت من يدي مرتين، تذكرت أبي الذي كان يرفض ذهابي إلى البحر، تذكرت أنني ضيعت مقابلة العمر التي انتظرتها بين ريال مدريد وأتلتيكو. حاولت الإشارة بيدي لكن الموج غطى جسمي حينها نطقت الشهادتين.. أيقنت أن موعدي مع الموت قد حان وفقدت الإحساس بكل شيء.. فبدأ الجميع يصرخ ليتدخل أحد الغطاسين كان متواجد بالصدفة وتمكّن من إخراجي وقدم لي بعض الإسعافات ليتم تحويلي إلى مستشفى المدينة في حالة يرثى لها. يصمت ياسين لبرهة وعلامات حزن شديد ترتسم على وجهه، يتنهّد بعمق قبل أن يتابع “لن تطأ قدماي الشاطئ أبدا وأنصح الجميع أن يتعلموا السباحة، فالجهل بها يؤدي إلى الهلاك”.البحر هاجس لدى شباب وعائلات بجيجلتحولت شواطئ البحر إلى هاجس حقيقي لدى الكثير من العائلات التي فقدت أبناءها في حوادث غرق وعند بعض الشباب الذين نجوا من الموت، بينما كانوا يسبحون في لحظات استجمام.“حسينة” سيدة فقدت أكبر أبنائها غرقا قبل سنوات بأحد شواطئ الجهة الغربية لمدينة جيجل، لا تزال تستحضر المأساة التي ألمّت بعائلتها قائلة: “منذ وقوع الحادثة لم أذهب أنا وزوجي إلى البحر وحتى أبنائي حرمتهم من الاستمتاع به، لأنه أصبح يشكل هاجسا لدينا” رغم أننا –تضيف – “كنا قبل ذلك متعودين على قضاء أيام عديدة من موسم الاصطياف كل سنة في الشواطئ إلى درجة الإدمان”.من جهته، طارق “43 سنة” من مدينة جيجل الذي كان برفقة شقيقه الأصغر عندما تعرض للغرق في شاطئ العوانة قبل قرابة 20 سنة، يقول: “لم تطأ قدماي مياه البحر منذ وفاة أخي، أحيانا فقط أتوجه إلى الشواطئ رفقة أصدقائي لكنني أفضل البقاء فوق الرمال، لأن الرعب يسكن داخلي بمجرد الاقتراب من الماء”، ويواصل حديثه والدموع تذرف من عينيه “كلما قصدت شاطئ من الشواطئ إلا وتذكرت لحظات تعرض أخي للغرق، وعندما كنت أصرخ وأحاول إنقاذه”.ويكشف عبد المالك “35 سنة” كيف أثرت حادثة نجاته من الغرق في صائفة 2005 بشاطئ سيدي عبد العزيز على نفسيته، حيث أوضح “منذ أن وقع لي ذلك الحادث لم أعد أتردد كثيرا على الشواطئ، وحتى إن ذهبت، فإنني أفضل السباحة في المناطق القريبة من الرمال وعلى مقربة من حراس الشواطئ”، ويضيف “عون الحماية المدنية الذي أنقذني أصبح صديقي إلى اليوم، ودوما أتمنى أن أتوجه إلى الشاطئ الذي يعمل فيه نظرا لإحساسي بالأمان إلى جانبه”. ويقول الشاب “كمال” من جهة أخرى، بأنه ظل منذ الصغر مولوع بالسباحة في الشواطئ غير المحروسة، إلى أن نجا من الغرق بضواحي منطقة تاسوست قبل أربع سنوات، حيث قام بإنقاذه بعض المصطافين الذين كانوا في عين المكان، وهو ما جعله فيما بعد يقاطع هذه الشواطئ ويفضل التوجه إلى الشواطئ المحروسة خوفا على حياته.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات