+ -

يعرض، مساء اليوم، بقاعة سينما “الموڤار” في الجزائر العاصمة، ابتداء من الساعة السابعة مساء، فيلم “عمر ڤتلاتو” للمخرج مرزاق علواش في صيغته الجديدة بعد عملية الترميم والرقمنة التي أنجزها المركز الوطني للسينما. ويأتي عرض الفيلم بمناسبة مرور أربعين عاما على إخراجه (1976). وبعد كل هذه السنوات، لا يزال الفيلم يعكس الواقع ويطرح الأسئلة حول أحلام وكوابيس الشباب وقلقهم المستمر. وفيما اعتبر الناقد السينمائي عبد الكريم قادري أن الفيلم لايزال يؤسس لسينما مختلفة وجديدة، ولايزال يبحث عن القطيعة التي نحتاجها اليوم لبعث سينما جديدة ومختلفة، اعتبر أحمد بجاوي أن فيلم مرزاق علواش يعبر عن معاناة الجيل الذي فقد الأفق.حقق إقبالا بلغ ثلاثمائة ألف مشاهد خلال عرضه في عامه الأولمرزاق علواش أخرج السينما من قبضة “البروباغوندا” يندرج فيلم “عمر ڤتلاتو” ضمن نهاية حقبة انشغال السينما بفكرة تمجيد الثورة والخيارات الاشتراكية للسلطة عقب 1962، والتي تمحورت أساسا حول “الخيار الاشتراكي”، وقدم نظرة جيل جديد هو جيل ما بعد الثورة الذي انبثقت أحلامه بين ظهراني شوارع المدينة والأحياء الشعبية وبالضبط حي باب الواد.حظي الفيلم حينما عرض لأول مرة في قاعات السينما بإقبال جماهيري منقطع النظير، واستقبل باهتمام وحفاوة نقدية لافتة، وبقي يعرض على مدى ستة عشر أسبوعا في قاعتين كبيرتين بالجزائر العاصمة، فحطم كل الأرقام القياسية من حيث الإقبال، ليحقق لاحقا إقبالا ضخما بلغ ثلاثمائة ألف مشاهد، وعرض في واحد وثلاثين قاعة سينما على مستوى التراب الوطني ونال عدة جوائز عبر العالم منها الميدالية الفضية في مهرجان موسكو سنة 1977، ورشح للعرض في مهرجان “كان” الدولي للسينما في العام نفسه وجائزة مهرجان “كارلوفي”. اهتمت به الفئات الشعبية لأنها وجدت ضالتها في يوميات شباب عاصمي استحال عليه العشق، وكتب عنه النقاد كثيرا لأن مرزاق علواش اعتمد على تقنية سينمائية حديثة وهي تقنية السرد المباشر كوسيلة للتعبير، لتمكين المشاهد من الغوص في عمق الأحاسيس الذاتية للشخصيات الرئيسية، وتمثيل الصعوبات الحياتية المتعلقة بالجنس كمسكوت عنه في ثقافة تقليدية تقوم على الفصل بين الذكور والإناث.  لايزال الفيلم بعد مرور أربعين سنة على عرضه في قاعات السينما يحتفظ بكل رونقه، وهو محل اهتمام النقاد والجمهور على حد سواء. وحتى علماء الاجتماع أدلوا بدلوهم واعتبروه بمثابة وثيقة فنية واجتماعية عن حالة المجتمع الجزائري خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث يمكن اللجوء إليه لدراسة الحالة النفسية للشباب من خلال النظر في معاناتهم الجنسية في مجتمع منغلق نقلته كاميرا علواش بعد شهرين من التصوير في صيف 1976 في شوارع الجزائر العاصمة.على خطى المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكايعبّر فيلم “عمر ڤتلاتو” عن معاناة البطل الرئيس عمر (تمثيل بوعلام بناني) وهو حبيس موقفه من الحياة القائم على فكرة “الرجلة”، وقد أصبح عبدا لها إلى حد جعلته يتحول إلى ضحية هذا الخيار (عمر قتلته الرجلة) الذي يجمع بين الشرف الرجولي وروح الفروسية والحشمة الذكورية، فيجد نفسه وسط مجتمع يجعله يعيش خالي الوفاض بلا عشق، فلا يعثر سوى على شلة ذكورية ينخرط وسطها ويعتنق ثقافتها التي تقوم على الموسيقى الشعبية والأفلام الهندية. يعيش عمر وسط عائلتها في شقة صغيرة بحي “كليما دو فرانس” بأعالي باب الواد، يعمل في وسط البلد كموظف في مصالح مكافحة الغش، وهو مهووس بالموسيقى الشعبية العاصمية، له جهاز تسجيل صغير لا يفارقه، ويرتبط بفتاة لا يلتقي بها أبدا.جاء الفيلم ضمن تيار السينما الواقعية الجديدة التي برزت في إيطاليا عقب الحرب العالمية الثانية، وبالأخص فيلم “سارق الدراجة” الشهير للمخرج والممثل الكبير فيتوريو دي سيكا. ففي كلا الفيلمين يجد المشاهد نفسه أمام وقائع الحياة المباشرة في فضاء تم استرجاعه بعد حرب طويلة ضد الاستعمار دامت سبع سنوات ونصف، مثلما استعاد الإيطاليون روما من الفاشية ونظام موسيليني. ورغم خلو الفيلم من أي تمجيد للثورة، إلا أن مرزاق علواش قدم إشارات لمرحلة حرب التحرير، حينما جعل بطله يتحدث عن عنف منظمة الجيش السري “أو. آ. آس”، حيث كان شاهدا وهو طفل صغير على تفجيراتها، وعلى سقوط ضحايا. لكن عمر يردد: “كل هذا بعيد عنا الآن. باب الواد أصبحت ملكا لنا”. لكن ذلك لم يمنعه من تناول مسألة التمجيد التي غرق فيها جيل الثورة، حينما يقول عن العم طاهر الذي يدعي صباح مساء أنه شارك في الحرب: “لما يتكلم، ندرك بسرعة أنه يُلفق الأكاذيب”. وإلى جانب تقنية التصوير التي استمدها علواش من الكوميديا الإيطالية التي تجعل الواقع مأساويا بسبب الحرمان الجنسي، لجأ علواش إلى تقنيات أخرى، فكثير من اللقطات تم تصويرها وفق الطريقة الواقعية التي أبدعها “دي سيكا” الذي كان يخفي الكاميرا ويصور دون علم الممثلين، بعد أن أوهمهم بأنه بصدد القيام بتدريبات. كما أن مسألة المحو والرفض امتدت لتمس غالبية لحظات الفيلم، على غرار ما حدث في المسرح، حيث يقوم المتفرجون بالضغط لإلغاء عرض مسرحي ممل، والمطالبة بالمرور مباشرة إلى أغاني المطرب عبد القادر شاعو كرمز للثقافة الشعبية المتجذرة.القطيعة مع التاريخصور مرزاق علواش لحظة القطيعة مع الماضي، وقدم أحلام جيل جديد يتوق للعشق. غياب الماضي التاريخي عوضه الفيلم بغياب أفق حياتي في حي شعبي يعيش على وقع وهم البناء الاشتراكي. وتبرز هذه النظرة النقدية، رغم أن علواش بدأ العمل في وزارة الثقافة وشارك في تنظيم “جولات سينمائية” عبر القرى لشرح مضامين الثورة الزراعية. لكن هذا الغياب على مستوى الأفق هو الذي يجعل الفيلم ينتهي حيث بدأ، أي في غرفة عمر بباب الواد. بدأ وهو يحكي الحكاية وانتهى بها، فالأفق في جزائر السبعينات مثلما يقدمه الفيلم يعتبر أفقا مسدودا، رغم جرعة الأمل التي ينتهي بها الفيلم حينما يردد عمر قائلا: “لاحقا سوف أتصل بسلمى، نعم سأتصل بها لاحقا..”، فرغم انسداد الأفق، إلا أن عمر بقي متشبثا بحلم لقاء سلمى.لقد عرف مرزاق علواش كيف يخرج السينما الجزائرية من قبضة “البروباغوندا”، ويضعها في صف سينما المشاعر الإنسانية التي برزت أكثر في فيلمه اللاحق “الرجل الذي ينظر من النوافذ”.أحمد بجاوي“عمر ڤتلاتو” هو فضاء “الرجلة”بلغ عمر سن الأربعين، والشخصيات التي أبدعها مرزاق علواش في فيلمه الطويل الأول ليست أقل منه سنا، فهي تمثل أكثر من جيل، نجده اليوم قد بلغ سن السبعين، في الوقت ذاته عرفت البلاد أحداثا كثيرة وتحولات عايشتها موجات جديدة من الشباب الجزائري بأحلام مختلفة.لم يكن قد مر سنة 1976 على نهاية حرب التحرير سوى أقل من خمسة عشر عاما فقط. خلال هذه السنوات لم يكن جيل الحرب يتداول سوى الحديث عن إعادة البناء مع بلوغ مستقبل زاهر ومثالي، هو عصر الحلم الجزائري. العالم بأسره كان يُكن لنا كثيرا من الإعجاب، والجزائر أصبحت مكة للعديد من ثوار العالم. لقد رسم المهرجان الثقافي الإفريقي سنة 1969 مصير الجزائر، وكأنها البنت البكر لحلم الانعتاق الجديد.بعد أن درس السينما في الجزائر عقب الاستقلال مباشرة، انطلق مرزاق علواش مثل كل أبناء جيله في هذا الحلم. شارك في الحملات التطوعية لدعم الثورة الزراعية، على غرار سينمائيين آخرين ينحدرون في غالبيتهم من أصول ريفية. بيد أن علواش يُعد ابن العاصمة، فهو سينمائي حضري ينظر لدور الجيل الجديد نظرة مختلفة. هذا الجيل كان ينظر نحو المستقبل، وهو يطرح سؤال: هل يوجد مستقبل في باب الواد؟ هذه الشعارات نفسها هي التي سوف نقرأها على جدران باب الواد في أكتوبر 1988.هؤلاء الشباب يُعتبرون بمثابة المتروكين لحالهم، ولفترة طويلة يعيشون على وقع الموسيقى وعبادة “الرجلة”. وباستثناء بعض اللقطات التي صوّرت على سطوح القصبة، يعتبر فضاء الرجلة بمثابة فضاء رجولي “ماشو” أو”رجلاوي” كما نشاء. لا نشاهد سوى امرأة واحدة كأنها ظل، أو مظهر خادع، وهي بمثابة ثمرة المسجلة الصغيرة التي تبث موسيقى الشعبي، التي تخترق حياة عمر. إننا أمام صوت امرأة في وسيلة اتصال، إنها الحداثة وهي منغلقة في الافتراضي.يساعده موح صديقه على اللقاء بتلك الفتاة، لكن عمر لم يتمكن من تجسيد اللقاء، فيقرر الالتحاق بشلة الأصدقاء المنغلقة على نفسها والمتكونة من جماعة من الذكور. وبواسطة الإبعاد والإقصاء في هذا الفضاء المهمّش، عبّر بطلنا عن سوء العيش بالنسبة لهذا الجيل لمرحلة ما بعد الاستقلال. كما تبرز في الفيلم تيمة الحرب بين الجنسين، التي حلت محل صراع الطبقات. وهؤلاء الشبان المحرومون من الحب هم من سيشكل العناصر الأولى التي ستنخرط لاحقا في صفوف الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتسلك طريق العنف. بعد أن أعلن “عمر ڤتلاتو” عن جيل الشباب الذي سوف يفجر أحداث أكتوبر 1988، ثم مرحلة العشرية السوداء، سيعود علواش إلى هذا الجيل في فيلم “باب الواد سيتي” (1994)، وفيلم “العالم الجديد” (2001) و”التائب” (2012). وبعد ثلاثين عاما من “عمر ڤتلاتو”، يقدم إلياس سالم في فيلم “مسخرة” (2007) صورة أكثر نزوعا نحو المصالحة لشباب يتطلع للحب والسعادة المشتركة.الناقد السينمائي عبد الكريم قادري“عمر ڤتلاتو” لايزال يعكس الواقع نفسه بعد أربعين سنةيرى الناقد السينمائي عبد الكريم قادري أنه قبل الحديث عن كيفية قراءة فيلم “عمر ڤتلاتو” بعد 40 سنة من إنتاجه، لا بد من الإشارة إلى القيمة الفنية والمحمول الأيديولوجي، وحتى السياسي لهذا الفيلم الذي يُعتبر مُنتجا مهما فصل بين حقبتين، وأسس إلى توجه سينمائي جديد، وصفه عدد من النقاد بـ”الواقعية الجديدة” التي جاءت بها السينما الإيطالية. واعتبر قادري أن “علواش من خلال هذا الفيلم قد خرج عن الخط الذي رسمه “السياسي الثوري”، وتخلص من عباءة “السينما الموجهة” والأيديولوجية، ليكون هذا الخروج بمثابة عملية “تمرد” سينمائي ومُغامرة كبيرة وجريئة في ظل توفر معطيات لا تساعد في تلك الحقبة، حتى أنه كان من المتوقع أن يتم توجيه تهمة “الخيانة” لعلواش، خصوصا أنها تهمة جاهزة تُكيف بسهولة، ويمكن أن يتم إطلاقها على كل من يغرد خارج السرب، وهي أيضا التهمة التي وجهت لمحمد لخضر حمينة  بعد عرض فيلمه “وقائع سنوات الجمر” من قبل مجموعة من المخرجين الذي أصدروا بيانا في هذا الأمر، لكن علواش واجه الأمر بشجاعة وثبات، وتخلص هو الآخر من خلال فيلم “عمر ڤتلاتو” من عباءة السينما الدعائية التي كان يرتديها، وأسس لنفسه خطا جديدا في السينما الجزائرية لا يزال وفيا له إلى آخر فيلم له”.بعد 40 سنة من إنتاج الفيلم، يعتقد عبد الكريم قادري أن الساحة السينمائية الجزائرية الحديثة عادت إلى ما قبل “عمر ڤتلاتو”، وإن كانت هذه العودة مختلفة في بعض التفاصيل، لكنها مُطابقة في التوجه العام وبطريقة أسوأ. وأضاف: “بعد 40 سنة لا تزال أجواء هذا الفيلم تُعاكس واقعنا اليوم، ولا يزال “عمر” بطل علواش يحاكي “عمر” اليوم، إذ أن الأول يُحب فتاة سمع صوتها على شريط كاسيت، يعاني الجمود والوحدة وغياب الفرص، والثاني يُبحث عن فتاة أحبها بعد أن رأى صورتها على فايس بوك أو تويتر، من أجل كسر الوحدة والجمود وغياب الفرص، إذ أن كلا “العمرين” يعيشان في الوهم والرتابة”. ولا يزال علواش بعد 40 سنة وفيا، حسب قادري، لنهجه السينمائي الذي ابتدعه لنفسه، وقال: “إذ أن مشكلة الشباب لا تزال تعتلي أولوياته، كما أن أبطال أفلامه شباب، يصور قلقهم الوجودي وتراكمات حياتهم وانعكاسها على الواقع، ينقل علاقتهم بأنفسهم وبأسرهم، مع مجتمعهم وبيئتهم وحتى وطنهم وعالمهم ككل، ينقل قلقهم من أن يكون المستقبل مثل ماضيهم، وكأن علواش في هذه الأفلام يلعب لعبة المحلل النفسي الذي يعرف خبايا نفسية الشباب، ومن هنا نطرح السؤال التالي: ما مدى تماثل شخصيات هذه الأفلام مع ذات مرزاق علواش؟ وهل هي انعكاس كلي أو جزئي له؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تلاحم وتعاطف مع هذه الفئة؟ هي أسئلة وأخرى لا يمكن الإجابة عنها سوى من خلال تسليط الضوء عليها ودراستها وفق المناهج النقدية الحديثة لاستخراج ما ضُمر من الأسئلة”.وختم قادري رأيه قائلا: “فيلم “عمر ڤتلاتو” وبعد 40 سنة من الإنتاج لا يزال يعكس الواقع، ولا يزال يطرح الأسئلة حول ما هي أحلام وكوابيس الشباب وقلقهم الدائم، لا يزال يؤسس لسينما مختلفة وجديدة، لايزال يبحث عن القطيعة التي نحتاجها اليوم لبعث سينما جديدة ومختلفة”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات