يبتعد عن الأضواء.. يختار القطار وينتصر لـ"فلسطين"

+ -

ينزع ربطة العنق ويخرج من خلف الشاشة، ينسحب بثقة كبيرة، وبخطوات الكبار نحو العالم الذي يحبه، باتجاه الناس الذين يصنعون نجاحه، هكذا تبدو ملامح الخمس دقائق الأولى في اليوم الأول الذي تلا تتويج المخرج البريطاني الكبير كان لوتش، 80 سنة، بالسعفة الذهبية عن فيلمه “أنا دانيل بلايك”، مخرج كبير يحب الاحتكاك بالناس ولا تستهويه ملذات الدرجة الأولى. كانت الساعة تشير إلى حدود الحادية عشرة صباحا بتوقيت مدينة “كان” السينمائية، في أجواء وملامح سادها الرحيل، السير إلى محطة القطار هو حال العشرات من العابرين على البساط الأحمر، حقائب هنا وخطوات سريعة هناك تحاول اللحاق بوجهة القطار، يتسلل إلى المشهد منظر رجل في الثمانين من العمر يحمل حقيبة يد ويجر أخرى، بينما كانت تسير إلى جانبه سيدة في الستين من العمر، ويرافقهما رجل في الأربعين من العمر، لم يكن من المعقول أن نصدق أن هذا الرجل هو المخرج الكبير كان لوتش وزوجته وبطل فيلم “أنا دانيل بلايك” الحائز على السعفة الذهبية قبل ساعات فقط في سهرة نقلتها كبرى القنوات العالمية وصنعت الحدث بقوة.كيف يمكن أن لا نجد كان لوتش هنا؟في وقت كانت عدسات كبرى القنوات والإعلاميون يتزاحمون خلف مسرح “لوميار” الكبير من أجل التقاط صورة لـ”كان لوتش” أو افتكاك تصريح منه حول التتويج بالسعفة الذهبية، تسعد “الخبر” بلقاء خاص لم يكن طويلا ولكنه اختزل شخصية هذا المخرج العنيد المشاغب والمندفع بقوة نحو نصرة المواطنة والمنتفض ضد كل ملامح البذخ والرأسمالية. اتجه وهو يجر الحقيبة الصغيرة التي كانت تحمل السعفة الذهبية نحو شباك التذاكر، حيث يجلس موظف المحطة خلف المكتب وفي مقابله المخرج الكبير كان لوتش، الموظف تعامل مع صاحب السعفة الذهبية بصفته زبونا عاديا التزم الصف لدقائق كباقي الزبائن، قبل أن يصل إلى الشباك ويقتطع له ولزوجته ورفيقة دربه تذكرتين للسفر متجهين إلى باريس من أجل نصرة فلسطين. وسط هذا المشهد الذي بدا قادما من أفلام المخرج البريطاني الأكثر إيمانا بالمواطنة، كانت إحدى السيدات تهمس في أذن من حولها “كيف يمكن أن لا نجد كان لوتش هنا؟”، فبالنسبة لها فإن العثور على مخرج فيلم “أنا دانيل بلايك” على متن طائرة خاصة أو الدرجة الأولى هو الأمر الغريب. “كلما اقتربت من الناس أصبحت أشعر بالسعادة أكثر”، هكذا اختزل المخرج إجابته عن سؤالنا لماذا اختار القطار بدل الطائرة؟ فحضوره في تاريخ الجوائز الكبرى مرتبط بقضايا الضعفاء، وفي مساره 13 فيلما حائزا على سبع جوائز هامة في مهرجان “كان”، ما يجعله واحدا من أشهر السينمائيين الذين يدخلون تاريخ مهرجان “كان” من بوابة الأفلام التي تحمل انتقادات لاذعة للأنظمة، منها ثلاث جوائز للجنة التحكيم عن أفلامه “أسرار الدفاع 2008” و”رينينع ستونس 1993” و«حصة الملائكة 2012”، بالإضافة إلى جوائز لأحسن ممثل في أفلام من إخراجه وجوائز أحسن سيناريو عن فيلمه “حلوة السادسة عشر” للكاتب بول لافرتي.السعفة الذهبية في الدرجة الثانيةلا يزال المخرج كان لوتش وفيا للإنسان البسيط في داخله، مرت عشر سنوات على فوزه بأول سعفة ذهبية، ومرت ساعات على إلقائه كلمة الفرحة والتتويج بثاني سعفة ذهبية، ومر عمر طويل، ثمانون عاما منها نصف قرن في خدمة السينما والقضايا الاجتماعية، ولكن لم يتغير كان لوتش ولم يتبدل وهو أسعد بهذه الرحلة على متن قطار من الدرجة الثانية، رغم طول مدة الرحلة التي تصل إلى ساعات، إلا أن بطل فيلم “أنا دانيل بلاك” الممثل البريطاني “ديف جونس” الذي كان يرافق المخرج كان لوتش في هذه الرحلة، أكد لنا بأنه متجه إلى المشاركة في مهرجان “سيني فلسطين” لنصرة فلسطين والدعوة إلى مقاطعة كل ما هو “إسرائيلي”، فحسب الممثل “ديف جونس” لن يقبل كان لوتش أبدا ولن يتنازل عن الشعور بوجوه وسط الناس العاديين ووسط القضايا العادلة.ثقة الممثل “ديف جونس” بتواجده رفقة كان لوتش كانت كبيرة جدا وهو يرسم ابتسامة عريضة عندما أخبرناه بأن الفيلم كان رائعا، رغم نهايته الحزينة.كانت السعفة الذهبية في هذه الأجواء المزدحمة بالمارة في زاوية مظلمة من حقيبة المخرج كان لوتش، كانت الحقيبة ملقاة على الأرض بعيدا عن تصفيقات الجمهور وبعيدا عن أضواء كاميرات القنوات الكبرى، السعفة الذهبية أرادت أن تسافر من مدينة “كان” السينمائية إلى باريس عبر القطار، ثم إلى باريس، كأنها جزء بسيط من حقيبة مخرج مبدع عرف كيف يقتنصها من بين أعين آلاف السينمائيين في العالم، كانت جزءا بسيطا من حياة هذا المخرج القريب دائما من المواطنين والناس العاديين. سريعا، انصهر المخرج كان لوتش مع الناس في ازدحام الراحلين، إلى درجة كان من الصعب التعرف عليه. كان لوتش المتوج أمس بالسعفة الذهبية لأهم المهرجانات السينمائية يقف في هذا الطابور، طبعا لم يكن هذا الأمر سهل التصديق، ولكنه حقيقة كشفت عنها لهفة إحدى السيدات المسافرات على متن القطار نفسه، دفعتها لهفة رؤية المخرج البريطاني إلى التحرك يمينا وشمالا، والنظر في أعين من حولها وهي تقول “إنه كان لوتش لا أكاد أصدق نفسي”.العائلة.. أكبر جائزةالنجومبة بالنسبة لكان لوتش كما قالت زوجته: “أن يصنع أعمالا جيدة بغض النظر عن الجوائز”، لهذا قرّر أن يكون دائما إلى جانبه زوجته ورفيقة دربه ليسلي أشتون التي بدت بملامح السيدة البسيطة والمتواضعة رغم البريق الذي يحوم حول إنجازات زوجها الذي يمارس وظيفة الزوج بامتياز في ملمح عائلي بسيط. يتجه كان لوتش نحو شباك التذاكر، بينما تقف الزوجة في الخلف في انتظاره، سألنها عن إمكانية التقاط صورة معه والحديث إليه، رحبت بابتسامة وقالت: “لحظة فقط دعه ينتهي من شراء التذاكر”، نلمس من هذه الصورة سر النجاح في حياة كان لوتش هو العائلة السعيدة المتواضعة.ويقول المخرج البريطاني إنه يرفض أن يعود في طائرة خاصة حتى لو حاز على كل جوائز العالم “لا أشعر بالسعادة إلا عندما أكون مع الناس والمواطنين”، فقد اختار كان لون لوتش، مواليد 17 جانفي 1936، أن يكون الاحتفاء الكبير بالسعفة الذهبية عائليا، لهذا لم يتأخر طويلا في مدينة كان وقرّر العودة ساعات فقط بعد حصوله على السعفة الذهبية إلى حضن العائلة، حيث سيجتمع مع أبنائه ايما وهنا وستيف ونيكلوس على طاولة العشاء احتفاء بمسار والدهم السينمائي، مسار يدخل التاريخ من أوسع أبوابه بسعفة ذهبية جديدة ستضاف إلى الأولى التي حاز عليها العام 2006 في مهرجان كان السينمائي الـ59 عن فيلمه “تهب الرياح”.بالحديث إلى الكبار، ستشعر بأنك الأكبر في أعينهم وهم يراقبون لهفتك من أجل التقاط صورة معهم وتهمس لهم بكلمة “مبروك”، ليجيب كان لتوش بخجل كبير: “شكرا عزيزي أنت الأغلى”، بهذا الرد يفتح كان لوتش الأبواب لكل من يريد أن يسأله حتى قبل ساعة فقط من موعد انطلاق القطار، لطرح المزيد من الأسئلة حول فيلم “أنا دانيل بلايك” الذي اعتبره “اختزالا للقضايا العادلة”.في العادة، يصعب الوصول إلى النجوم، ولكن مع كان لوتش يكفي أن تقف حيث أنت في حياتك اليومية، في السوق، في محطة الميترو، في محطة القطار وفي طابور الانتظار أو في ازدحام المرور لتجد هذا المخرج الكبير أمامك، كأنه جزء لا يتجزأ من ديكور حياتك اليومية، وهو ما يفسر التزامه الدائم بقضايا المجتمع العميقة وحكايات متاعب العيش وقهر الأنظمة الرأسمالية، فهو يعود كل يوم بعد انتهاء تصوير فيلمه أو حصده للجوائز الكبرى إلى أبطال أفلامه الحقيقيين ليكون جزءا منهم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات