+ -

إنّ من سُنّة الله في الكون أن جعل له نفحات، ومن نفحات الله تعالى لعباده وتجلِّيات رحمته بهم، أنّه تعالى يُتابع لهم مواسمَ الخيرات والطّاعات، بعضها تِلْو بعضٍ، فاتحًا لهم أبوابَ الرّحمة والمغفرة، داعيًا إيَّاهم أن يَغتنموها. قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ آل عمران:133. ورُوي عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: “إنَّ لربِّكم في أيَّام دَهْركم نفحات، فتعرَّضوا لها، لعلَّ أحدَكم أن تُصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا”.اختصّ الله تعالى في أيّام دهرنا مواسم تعظُم فيها الطّاعة والعبادة والقربة لله تعالى، فهي مواسم جليلة ونفحات ربّانية خصّها الله لهذه الأمّة، لرفعة الدرجات، والفوز بأعلى الجنّات، فقد أخلف الله تعالى الأمّة عن قصر أعمارها ببركة في عملها ونفحات في أيّام دهرها، فمواسم الخيرات في السنة لا تنقض، يخرج المؤمن من عبادة ليستقبل أخرى، فمن لا يطيق فضيلة فهو يجتهد في غيرها، ومن فاتته فرصة للخير فهو يغتنم أخرى.فطوبى لمَن تعرّض لهذه النّفحات، واستغلّ الفرص قبل الفوات، فقد ورد في الأثر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى, فَإِنَّ لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ”.وإنّ من أعظم المواسم الربّانية والنّفحات الإلهية شهر رمضان المبارك، فهو فرصة ذهبية لا يجب تضييعها أو التفريط بها، وهو ميدان للتسابق في الخيرات لنيل أعلى الدرجات، والفوز بجنّة عرضها السّموات والأرض، يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ”.قال ابن القيم رحمه الله: “إنّ الرجل إذا حضرت له فرصة القُربة والطّاعة، فالحزم كلّ الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها، والتّسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكّنه من أسباب تحصيلها، فإنّ العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلّما ثبتت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمَن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك”.يعيش المسلم في هذه الحياة بنعم الله، فيمتِّعه بسمعه وبصره وكلّ قواه، وهو مع هذه النّعم يستطيع أن يقدّم بسببها ما لا يقدمه بغيرها، وكم من النّاس قد فقد شيئًا من القوى -نسأل الله العافية-، فحُرِمَ بسبب ذلك الكثير من الطّاعات والقُربات، وحُرِمَ العديد من العبادات والأفعال النّافعات.وهاهو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُبيِّن لأمّته أنّه من الضّرورة بمكان استغلال الفرص، والمبادرة إلى الخير قبل فوات الأوان. فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل وهو يعظه: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”.إنّ أعما البِرّ والخير تأتي عليها ظروف تسلبها استقرارها، وتمنعها هدوءها وسكينتها، فتأتي الفتن لتشغل قلب المسلم عن ربّه والتقرّب إليه، فكان لابدّ من المبادرة بالقربات قبل الانشغال عنها بغيرها، بل نحن كلّ يوم نواجه فتنًا جديدة، ونحتاج إلى رصيد كافٍ من الحسنات، ما يحفظنا من الضياع في هذه الملمات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “بادروا بالأعمال، فتنًا كقطع اللّيل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدّنيا”. يقول الإمام السيوطي رحمه الله: “بادروا بالأعمال فتنًا كقطع اللّيل المظلم” معناه: الحثّ على المبادرة إلى الأعمال الصّالحة قبل تعذرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام اللّيل المظلم لا المقمر”.*كلية الدراسات الإسلامية قطر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات