الأم التي قتلت زوجها لقتله ابنتها!

+ -

كانت الساعة الثانية إلا بضعة دقائق لما مرت الحافلة التي كان موظف المالية المدعو “مروان” على متنها متوجها إلى عمله، بعد تناوله وجبة الفطور رفقة زوجته، ولم يتفطن لمكيدة الشيطان الذي تربص به وقد امتطى معه نفس الحافلة، قبل أن يفاجئه بصورة لم يكون يتصورها.. اصطدمت عيناه بصورة ابنته سميرة، وهي متكئة إلى جدار الثانوية ومتمايلة إلى جسد زميلها الذي أحاط رأسها بيده، ليحدث بذلك الانفجار العصبي الأعظم. توجه مروان مباشرة إلى سائق الحافلة وطلب منه التوقف حالا، وفتح الباب لأمر مستعجل جدا، وهدده بصعقه في حال الرفض، فما كان من سائق الحافلة إلا أن رضخ للأمر، لينزل “الوحش الهائج” وسط دهشة المارة والمسافرين، ويتوجه مباشرة إلى ابنته التي فاجأها بضربات عنيفة، قبل أن يقرر سحبها إلى الرصيف الآخر، حيث استعان بقضيب حديدي كان مرميا في ورشة قريبة وانهال عليها بالضرب إلى أن أفقدها وعيها.المارة الذين حاولوا في بداية الأمر توقيفه فشلوا لأنه كشف عن طاقة إجرامية هائلة، وكان لا بد من تدخل أحد الرجال الأقوياء للمسك به وإبعاده عن “الفريسة” التي لم تكن إلا ابنته.. فلذة كبده.لما وصل رجال الحماية المدنية إلى عين المكان، أدرك جميع الحضور أن التلميذة التي تدرس بقسم السنة الثانية ثانوي لن تدخل القسم مرة أخرى، لقد لفظت أنفاسها الأخيرة، حاول رجال الشرطة الذين حضروا بأعداد كبيرة إلى مسرح الحدث توقيف القاتل، لكنه اختفى عن الأنظار وكأن الأرض ابتلعته.مرّ أزيد من عام على تاريخ توقيع الجريمة دون توقيف صاحب التوقيع، لم يعرف أحد أين اختفى، حتى زوجته كانت تجهل مكان تواجده، قبل أن تتفطّن هي بدورها إلى طريقة توصلها إلى زوجها، قاتل ابنتها، اتصلت بمكاتب الصحف المحلية لنشر صورة زوجها في إطار “بحث في فائدة عن العائلات”، إلا أنها فشلت في ذلك بسبب عراقيل بيروقراطية، تحوّلت إلى مصالح القضاء واستطاعت انتزاع أمر من القاضي يمكنها من نشر البلاغ، ولأنها ذكية، أضافت صورة الجاني دون أن تكشف أنه قاتل ابنتها.لم تمر سوى أيام قليلة على نشر البلاغ حتى بدأت تنهال عليها المكالمات من مختلف ولايات الوطن، أغلبها لا علاقة لها بالهدف، إلى أن تلقت الزوجة مكالمة من نادل يشتغل في مقهى بمدينة وهران، تبين لها من خلال أوصاف المتصل أنها أصبحت أقرب إلى زوجها.جمعت الزوجة حاجاتها وقررت التوجّه إلى مدينة وهران، وما هي إلا أيام قليلة حتى تعرفت على مكان تواجد زوجها القاتل، تبين لها أنه يقيم في بيت قصديري رفقة إحدى العاهرات. أول خطواتها هي التعرف على العاهرة للتأكد من حقيقة زوجها الذي أصبح صاحب لحية كبيرة.مرت سنوات عديدة على فراق فلذة كبدها، ونسي الأهل والأقارب والجيران مسألة الجريمة والقاتل، خاصة بعد انتشار إشاعات تحدثت عن تعرضه للقتل من قبل مافيا المخدرات، ليتوقف الجميع بذلك عن البحث عنه، إلا الأم الموجوعة المفجوعة التي أقسمت أن لا يهدأ لها بال حتى تنتقم لابنتها.فتنكرت هي بدورها بزي لا يتعرف عليه الجاني، ودخلت البيت الذي يقيم فيه بدعوى أنها صديقة لرفيقته، في الليلة الأخيرة اتصلت بأمها وأفراد عائلتها وأخبرتهم بالقصة، ودعتهم بعدم تحمل مشقة السفر إلى حيث هي موجودة، مؤكدة لهم أن الوقت سيكون قد فات.في تلك الليلة التي سمتها “الأخيرة”، كانت العاهرة قد قضت ليلتها خارج البيت، واستأذنت عشيقها لانتظارها وقضاء الليلة في المطبخ. كانت الساعة العاشرة ليلا، والرجل القاتل خلد إلى النوم وهو في حالة سكر متقدّمة، أما الأم الموجوعة فكانت تريد أن تصفي حسابها معه وهو في كامل وعيه.لما كان مؤشر الساعة يقترب من حدود الرابعة صباحا، كان كل شيء جاهزا: الخطة كاملة ومحكمة، ولم يبق إلا تنفيذها، سكين المطبخ في يدها، والساطور في اليد الأخرى، دخلت عليه في الغرفة، وأيقظته لكنه رفض أن يفتح عينيه، أخذت حبل أكياس الإسمنت وقيّدته بإحكام إلى السرير، بدأ يصرخ في وجهها “ماذا تريدين؟ اخرجي..”، فردت عليه ووسائل الانتقام في يديها “سأخرج ولكن ليس قبل أن تلتحق بابنتك سميرة”. استحضر جميع أوصافه من الأب والزوج وتوسّل إليها أن تعفو عنه وأنه ندم كثيرا على جريمته، وأن ضميره لم يرحه أبدا. “11 سنة من العذاب لن تذهب سدىيجب أن تدفع الثمن”فجأة تجردت هي بدورها من طبيعتها البشرية لتتحول إلى وحش مفترس، قامت بقطع أصابع يده بكل برودة دم وكأنها تقطع جزرة أو خُضارا، وسط صراخ أثار انتباه الجيران، لكن أغلبهم كان يعتقد أن الخمر هو الذي فعل فعلته، الباب كان مغلقا بإحكام، انهالت عليه بالضرب بالساطور على القدمين، تماما مثلما فعل هو مع ابنته قبل 11 سنة، وحوّلتهما إلى لحم مفروم، وقبل أن يفقد وعيه فصلت رأسه عن جسده، وأضرمت النار فيه.لما همت الزوجة بالخروج من البيت، كانت الشرطة بالمرصاد، حاولت التخلص منهم لكن دون جدوى، نشرت الصحف خبر الجريمة التي ارتكبتها من وُصفت حينها بـ “المجنونة”، وكان لا بد من انتظار سنة كاملة لتنشر نفس الصحف قصة الجريمة وعلاقتها بجريمة أخرى بعد التحقيق القضائي الذي باشرته المحكمة.يوم المحاكمة..تنقل عدد كبير من المواطنين الفضوليين والجيران والأقارب إلى مدينة وهران لحضور المحاكمة ومعرفة حقيقة لغز الجريمة التي ظلت دون عقاب بسبب اختفاء فاعلها. داخل قاعة المحكمة كانت الأم المنتقمة في راحة نفسية كبيرة، سألها رئيس الجلسة عن صحتها، فردت بأن كل شيء على ما يرام، وطلب منها أن تستمع لقرار الإحالة الذي بدأ في تلاوته كاتب الضبط، من كل ما بلغ مسامعها، أنها متهمة بجناية القتل العمدي مع سبق الإصرار والترصد، وعدم تبليغ عن مجرم في حالة فرار، بعدها تقدمت إلى منصة الاتهام بأمر من رئيس محكمة الجنايات، وبدأت في سرد تفاصيل القضية، ليتبين لهيئة المحكمة أن قرار الإحالة كان شبه فارغ بالمقارنة مع كل ما كشفت عنه، وكان التأثر الشديد باديا على الحضور، خاصة النساء.ممثل الحق العام قال في مرافعته إن المرأة التي ترتكب مثل هذه الجريمة البشعة لا تستحق أن تعيش في المجتمع، وفي وقت كان الجميع ينتظر التماسه عقوبة الإعدام أو المؤبد، اكتفى بالتماس 10 سنوات سجنا نافذا، ووضع يديه على رأسه في نهاية تدخله.هيئة الدفاع التي تتشكل من محامين متطوعين تنقلوا من بجاية إلى وهران، بذلوا كل ما في وسعهم لإدراج الجريمة الأولى (قتل البنت سميرة) في الملف لكن دون جدوى، بسبب غياب الأدلة المادية، فالقاتل مقتول، والقاتلة متهمة بالجنون، والجريمة الأولى كان مصيرها الحفظ لغياب الأدلة. حدث هذا رغم أن الرجل عاش كل أيام فراره دون وثائق هوية ولم ينفصل عن عالم الانحراف والرذيلة. وقبل انصراف هيئة المحكمة، طلبت منها أن تقول كلمتها الأخيرة، لتفاجئ الجميع بتوجيه شكرها الخالص لجميع النساء، من حارسات السجن والمكونات اللواتي عاملنها كأم رفضت الانفصال عن ابنتها التي قُتلت شر قتلة.إعلان الحكمبعد أقل من ساعة من المداولات، عادت هيئة المحكمة من قضاة ومحلفين، وعكس ما كان منتظرا فقد استفادت من الظروف المخففة، وفيما كان رئيس الجلسة يتلو على مسامع الناس فحوى ما توصلوا إليه، كانت أصوات تنبعث من كل مكان، واضطر الرئيس إلى الإفصاح بالحكم، وذلك بإدانة المتهم بعقوبة 10 سنوات سجنا، تصبح نافذة بعد استنفاد فترة العناية الصحية، وهو ما سماه البعض “البراءة المقنعة”.شهادة مُكوِّنات وعاملات السجنتقدمت إلى هيئة المحكمة 10 من عاملات ومكوّنات السجن كشهود، حيث أجمعن أن المتهمة تصرفت بأخلاق عالية داخل السجن، وأنها تؤدي صلواتها بانتظام، ومتعاونة جدا، واعترفن بحسن سيرتها إلى درجة أنها كانت تتمتع بحريات متميزة داخل السجن، والجميع يعاملها كعاملة وليس كسجينة. إحدى المكونات لم تتمكن من مسك دموعها، فالمتهمة تروي قصة مقتل ابنتها بطريقة تؤثر حتى على القلوب الخشنة، وأن صوت صراخ البنت المقتولة على يد والدها لن يغادرها إلى يوم تلحق بها. أحمد بوعلي أستاذ في علم الاجتماع “ليس هناك صدام بين العاطفة والقانون” قال الأستاذ والمحاضر في علم الاجتماع أحمد بوعلي إن المتهمة نجحت إلى حد بعيد في إقناع العامة أنها ضحية، وأجبرت الجميع على التعامل معها كإنسان. وما ميز المحاكمة هو نزول الإنسانية إلى سطح الأرض وطغيانها على التدخلات دون المساس بروح القانون الذي طبق بشكل عادي، وبالتالي خروج الجميع مرتاحا من الحكم الصادر. وأضاف الأستاذ أن المحاكم في مختلف دول العالم تشهد مثل هذه المحاكمات المتميزة، دون خلق صدام بين العاطفة والقانون. وأكد أن أغلب خبراء الإجرام يعترفون بوجود متهمين في ثوب ضحايا يدركون كيف يتخلصون من الورطات التي يقعون فيها. وبالنسبة للمتهمة فهي ليست ذات مستوى تعليمي عالٍ، عكس كبار المجرمين الذين يوقعون بهيئة القضاء في وضعيات صعبة.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات