+ -

رسم حميد ڤرين، وزير الإعلام، لنفسه، مسارا شاذا بين كل الوزراء الذين تداولوا على القطاع في عهد الرئيس بوتفليقة، فقد كان كل الذين سبقوه يجتهدون في إعطاء صورة إيجابية عن الإعلام رغم واقعه المزري، بينما فضل هو عبر كل قراراته إعلان الحرب على أهم الصحف بالبلاد، وتكريس فوضى قانونية شاملة، غير مكترث بما خلفه ذلك من ضرر على نظام يسوق نفسه، في الداخل والخارج، على أنه قطع أشواطا كبيرة في ترسيخ حرية الإعلام.استهلك الرئيس بوتفليقة 13 رجلا بين وزير وكاتب دولة للإعلام، منذ مجيئه للحكم سنة 1999، ولم تكن علاقته طيبة مع صحافة بلاده عموما، فهو الذي لم يعط أي حوار لصحيفة جزائرية، كما أنه قدح في الصحفيين ووصفهم بـ”طيابات الحمام” بسبب النقد الذي كان يتعرض له في كتابات بعضهم، إلا أن الصحف والمجلات واليوميات، كلها تعايشت مع هذا الواقع، ولم يسجل رغم حالة “القلق” التي كانت تطبع علاقة الصحف بالسلطة، قضايا غلق لصحف بسبب ما كانت تكتبه، إلا في استثناءات قليلة جدا.فجأة، في سبتمبر 2014، يظهر في القطاع الرجل “14”، حميد ڤرين، الذي وجد نفسه وزيرا للاتصال بعد أن كان مجرد مكلف بالاتصال على مستوى شركة “جازي” للاتصالات، فيخالف كل الأعراف التي اعتاد عليها سابقوه في علاقتهم بالصحف ثم القنوات التي ظهرت حديثا، ويؤسس لمرحلة جديدة عنوانها “الصدام” مع كل وسائل الإعلام التي تتمتع بهامش حرية واسع في انتقاد السلطة أو تلك التي تم تصنيفها ضمن الرافضين للعهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة، وهو خيار حر وسيد لا يخالف في شيء القوانين والدستور الجزائري، الذي يتيح لوسائل الإعلام أن تعبر عما تشاء في إطار احترام دائرة الثوابت الوطنية الضيقة جدا.بدأ ڤرين حربه بقصف مركز على العوائد الإشهارية للصحف التي رفضت العهدة الرابعة، فكانت أول ضحاياه جريدة “الجزائر نيوز” للصحفي حميدة العياشي الذي لم يستوعب حينها كيف أن جريدته التي سهر عليها مدة سنوات لتقف على رجليها وتصبح رقما فاعلا في الصحافة المكتوبة بالجزائر، تنهار هكذا أمامه دون أن يستطيع فعل شيء. ثم جاء الدور على جريدة “الفجر” التي لم يغفر لها ڤرين عدم انخراطها في جوقة العهدة الرابعة، وسلط عليها متاعب المطابع وضيق عليها في الإشهار، حتى كادت أن تغلق الجريدة لولا إنقاذها في آخر لحظة. ثم وصل الدور إلى قناة “الوطن” التي تم إغلاقها بسبب تصريحات مسؤول سابق في الفيس المحل، سبق أن استضافته قنوات أخرى دون أن تتعرض لنفس المصير.وبما أن جريدتي “الخبر” و”الوطن” متحررتان منذ زمن من سطوة المطابع العمومية والإشهار العمومي بفضل معركة نضال طويلة، فكر ڤرين في استراتيجية أخرى لضربهما، تتمثل في دعوة القطاع الخاص إلى عدم الإعلان فيهما، وهي دعوة تحمل في باطنها تحريضا مباشرا على تجفيف آخر المنابع المالية لهاتين الصحيفتين، ما يؤدي لا محالة إلى غلقهما. ولم يكتف الوزير بذلك، بل غلف دعوته بمبررات تنتمي إلى عصر آخر، عندما راح يذكر بأن هذه الجرائد ترسم صورة سوداء عن الجزائر وتزرع الشقاق بين الجزائريين، معيدا زمن رئيس التحرير الواحد الذي يضع للصحف الخطوط الحمراء ويحصر مهمتها في تلميع صورة القائد والزعيم.وبعد أن كانت خطة ڤرين تسير في الاتجاه الذي كان مرسوما لها، فوجئ بصفقة تعيد إنعاش “الخبر” بشراء مؤسسة “ناس برود” لأغلبية أسهمها، ما يجعلها مرتاحة ماديا تماما ومتفرغة لعملها، فعمد مرة أخرى إلى محاولة إجهاض العملية واتجه إلى القضاء متحججا بمواد في قانون الإعلام العضوي، لكن ڤرين مرة أخرى واجه رفضا لمبرراته حتى من شخصيات قريبة من السلطة والرئيس، مثل الحقوقي فاروق قسنطيني، ثم تصريحات عمار سعداني التي فهمت على أنها تبرؤ من تصريحات وزير الاتصال، وبدا ڤرين في خضم كل ذلك معزولا حتى وهو يعتقد أنه يقدم أكبر خدمة لمن عينه في المنصب.والأدهى من كل ذلك، أن القانون العضوي للإعلام الذي يتمسح به في دعواه ضد “الخبر”، صرح ڤرين في العديد من المناسبات أنه يرفض أهم ما جاء به “سلطة ضبط الصحافة المكتوبة”، حيث سمح لنفسه بنسف هيئة رسمية نص الشارع على إنشائها في قانون مرّ على البرلمان بغرفتيه ومجلس الوزراء، وقدم على أنه باكورة إصلاحات الرئيس في 2012، هكذا بتصريح عابر، يزيد لا محالة من دحرجة الجزائر في سلم حرية التعبير في العالم إلى الحضيض.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: