مثل الإعلام كمثل الماء؛ فمنه الذي يمر عبر القنوات الصالحة للشرب، فهو موجه ويشبه في سريانه خط الصحافة الحكومية الثابت وفق نظرية السلطة في الإعلام. هذه الصحافة العمومية لم تتغيّر منذ الاستقلال، رغم احترافية أقلامها وطول باعها، وما خرّجت من فطاحل وكتّاب صحفيين ومقدمي نشرات وتقنيين ومخرجين.. فهي بحق مدرسة تكوين، ولكم أن تسألوا عن هذا الموضوع العلبة السوداء الكاتب الصحفي سعد بوعقبة، صاحب القدم الراسخة في الصحافة الاستقصائية.. والكلام عن الإعلام العمومي في بلدنا بهذا الوصف، حقيقة لا يختلف فيها اثنان.. ولا ينتطح فيها عنزتان، كما تقول العرب.هذه الفئة كانت قاعدة انطلاق للصحافة الحرة في الجزائر، التي بدورها تشبه ماء المطر؛ فهو ينزل من دون إذن السلطة ولا يمر عبر قنواتها، غير أنه يكون صيبا نافعا في غالب الأحيان، ويكون طوفانا يضر بالمتلقي ويوهمه بحقيقة ماورائية ويكرّس لحرية التعبير وفق المنظور الغربي أو الشرقي.. بعيدا عن الحتمية القيمية التي تحكم المجتمعات الإسلامية.. ويساهم في التوجيه وفق صناعة الرأي لدى الفرد ثم المجتمع، بفعل التعرّض المستمر الذي يولّد صورة نمطية ذهنية تضفي في الأخير إلى إصدار أحكام بعيدة عن القيمة والموضوعية قد تحدث سلوكا وممارسات فعلية تمس بأمن البلاد والعباد (ليبيا والجزيرة).. ولنا في أعمدة الصحف المستقلة خير مثال، على غرار ما توفره من إشباع كبير لدى القارئ، حتى أصبح الجالس في المقاهي يحلل وفق هذا المنظور، ويتعدى الأمر بدرجة أعلى إلى أرباع المثقفين وأصحاب الجعجعة اللغوية والرويبضة الذين أصبحنا نسمعهم ونشاهدهم يوميا على قنوات إعلامية تشبه قنوات الصرف الصحي، لما تقدمه من حصص التفاهة.. هي أحسن وصف لها.. وهذه هي الفئة الثالثة التي لا شرف لها ولا ذمة، وبلغت من السقوط والابتذال والصعلكة ما لم تفعله الصحافة العمومية بحد ذاتها، بل نصّبت نفسها ناطقا باسم الجمهور وتتبجح في كل مرة بكونها الأكثر مشاهدة وانتشارا و.. و.. فمثلا كان أحد الوزراء السابقين رئيس عصابة تسرق أموال الجزائريين بالأدلة، فتحوّل خلال عامين إلى رجل إجماع وطني من طرف الطاقم “الصحفي” نفسه، حتى يشعر المشاهد بنشوة تنم عن رغبة نفسية جامحة لدى أشباه الصحفيين أثناء مقابلاتهم مع بعض الوجوه الحكومية أو الشخصيات العامة.. وهنا لسنا بحاجة لأن نكون سعد بوعقبة لنفهم هذا.. هذه الفئة هي صورة بائسة عن مؤسسات إعلامية مصرية لطالما سبّحت بحمد الرئيس حسني مبارك.. ثم انقلبت عليه بقدرة قادر.. وها هي اليوم تقدم له الولاء والسمع والطاعة.إن السياسة الإعلامية التي تنتهجها المؤسسات الإعلامية الرسمية العمومية في بلدنا، جديرة بالاحترام في نظري؛ لأن ذلك هو ديدنها منذ نشأتها، فحري بالشرفاء من الإعلاميين أن ينتفضوا ضد “زملائهم” من الرويبضة، أولى من مواجهة السلطة.. أم أن أخلاقيات المهنة تمنع ذلك؟ فلماذا التطاول على هوية وقيم الأمة التي هي الأجدر بالتبجيل والاحترام، أم ستقولون إنني من دعاة نظرية المسؤولية الاجتماعية أو المتمركزين تحت مظلة النزعة “العزية” وفق منظور الحتمية القيمية في الإعلام، فهؤلاء لا مهنة لهم ومواجهتهم لا تعدو أن تكون حادث سير سوف يمر بسلام.. وإلا سيكونون مستقبلا قادة رأي في ظل مجتمع معلومات منبطح ثقافيا وإعلاميا، ومعاقا فكريا ولغويا أضحى يسبح في مستنقعات الفضاءات الزرقاء.نحن نرى اليوم إعلاما يدّعي الاستقلالية بلغ من الانحطاط والتوسل والتبرك في أروقة أصحاب السياسة والقرارات والمال والأعمال، إلى درجة لحس الأحذية.. وهو في حقيقة الأمر غير ملزم بذلك، إن أراد.. حتى يحق فيهم قول القائل: لا تسأل الطغاة لماذا طغوا.. واسأل العبيد لماذا ركعوا.. فلا غرو إذن أن تكون الساعة قد اقتربت وهرولت وأصبحت على مرمى حجر منا.حيدر بن عطية[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات