"كأننا لم نكتب شيئا عن مجازر 8 ماي 45" حتى لا ننسى..

38serv

+ -

رغم مرور 71 سنة كاملة عن المجازر الاستعمارية في 8 ماي 1945، ورغم الحبر الغزير الذي سال للكتابة عن مظاهرات 8 ماي، ورغم كثرة الشهادات، فإن هذه المأساة مازالت تحتفظ بالكثير من أسرارها لنفسها، حتى قال أحد المؤرخين والكتّاب المختصين في التاريخ الحديث بجامعة سطيف2 لـ “الخبر” “كأننا لم نكتب شيئا عن 8 ماي!”.   “يوم! لله دماء بريئة أريقت فيك، ولله أعراض طاهرة انتهكت فيك، ولله أموال محترمة استبيحت فيك، ولله يتامى فقدوا العائل الكافي فيك، ولله أيامى فقدن بعولتهن فيك.. يا يوم! لك في نفوسنا السمة التي لا تمحى، والذكرى التي لا تنسى، فكن من أية سنة شئت، فأنت يوم 8 ماي وكفى. وكل ما لك علينا من دين أن نحيي ذكراك. وكل ما علينا لك من واجب أن ندون تاريخك في الدروس، لئلا يمسحه النسيان من النفوس..”. هذه كلمات كتبها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في جريدة “البصائر”، لسان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يوم الاثنين 10 ماي 1948، فيها عظات ودروس ودعوة للحفاظ على الذاكرة التي مازالت تكشف أسرارها إلى اليوم، حيث تكشف “الخبر”، في هذا الملف الذي نعده بمناسبة الذكرى 71 لمجازر 8 ماي 45، لأول مرة عبر الصفحات والجرائد قضية موثَّقة بمراسلات المستعمر الفرنسي، فيها من “الإنسانية” التي أظهرها المتظاهرون الجزائريون ما يتجاوز الكلام والشعارات، وفيها من “الهمجية” من المستعمر ما يتجاوز الخيال ويثبت الوحشية.وتضم المقبرة الجماعية قبور 40 شهيدا هم:1-رماضنة الخير2–عجال علي3-رتمة التومي4–دخيلي الطاهر5–تواتي الدراجي6–تواتي عمر7–بعيطيش محمد8–عرنية بشير9–فوانيس علي10-فوانيس الصالح11-عميروش محمد12-بن خيري الصالح13-طبيب علي14-طبيب رابح15-عربة لخضر16-بوغابة بن عيسى17-طابع أحمد18-معيش الطاهر19-بوطويل لخضر20-بورحلة رابح21-قسوم الشريف22-وناس الساسي23-بن نمير محمد24-غربي حسين25-قلاوش ساعد26-زبار ساعد27-طبيب بن عيسى28-سباح عائشة29-هميسي عبد الله30-زوايد أحمد31-بوغوفالة الطاهر32-بوصبع مسعود33-رحراح العياشي34-مسكين عيسى35-طبيب ساعد36-طبيب لخضر37-بن عرعور بشير38-بن ديبة عبد الله39-حطاب علي40-مراتلة عليمراسلات فرنسية كشفت عن حالة إنسانية تبطل الادعاءاتجزائري ينقذ معلمة فرنسية من الموت ويُجازى بالقتل وترك جثته دون دفنقصة عمي أحمد الحداد مع المعلمة الفرنسية ماري سيمون جيوفاني، ليست رواية ألفها مبدع أو فيلم لعب أدواره فنان، بل هي واقعة حقيقة مثبتة بالدليل والبرهان، وقعت يوم 8 ماي عندما تدخل الثائر الجزائري وأنقذ المعلمة من الموت الحقيقي، مبطلا بذلك ادعاءات فرنسا الاستعمارية بأن المتظاهرين كانوا همجا.الواقعة التي كانت بلدية عموشة في سطيف مسرحا لها، اطلع عليها بعد جهد جهيد الدكتور بشير فايد من جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، من مركز الأرشيف الفرنسي في مرسيليا، رغم ما لحق هذا الأرشيف من تطهير ومحاولة إخفاء الكثير من الحقائق التاريخية التي تدين الاستعمار الفرنسي، حيث كشفت مراسلة إدارية للأمين العام لعمالة قسنطينة، بتاريخ 9 جوان 1945، إلى الأمين العام المكلف بشؤون الأهالي والشرطة العامة، بناءً على تقرير مرسل من معلمة في عموشة إلى السيد مفتش الأكاديمية، أنه عند منتصف النهار من يوم 8 ماي 1945، وصلت سيارات محملة بالأهالي المسلحين إلى عموشة، وبعدها مباشرة شرع المسلحون في إثارة الاضطرابات، بينما أغلقت المعلمة على نفسها ومن معها. وعند الساعة الثالثة زوالا، أطلقت عيارات نارية على السكان الأوروبيين عبر الأبواب والنوافذ، حاول بعضهم خلالها 3 مرات تحطيم باب المسكن الذي يخفي المعلمة وجماعتها، وكان الثائرون يريدون -حسب المعلمة- ذبحها، وأقرت المعلمة في مراسلتها بأن الحماية جاءت من قبل مواطن من الأهالي قدم خدمة كبيرة لها، وبعد وصول المعلومات للجيش الفرنسي في سطيف حضر لحمايتهم، وبناء عليه حث الأمين العام للعمالة على تقديم مكافأة للجار “الأهلي” عرفانا لما قام به.تحقيق فرنسا كشف المستوروتبعا لذلك، يضيف الدكتور بشير فايد، تم فتح تحقيق حول هوية الجار “الأهلي” الذي أنقذ المعلمة الفرنسية وأسرتها من المهاجمين، بغرض منحه مكافأة لم تحدد طبيعتها، ولم يمر وقت طويل حتى جاءت الصاعقة، فنتيجة التحقيق حسب مراسلة مؤرخة في 24 جويلية 1945م، موجهة من قبل المتصرف الإداري لبلدية تاقيطونت المختلطة التي كان مقرها عين الكبيرة (بيريقو فيل) إلى رئيس دائرة سطيف، ردا على مراسلة هذا الأخير بتاريخ 19 جوان 1945، كانت تدين فرنسا الاستعمارية التي حاولت مرارا إلصاق تهمة الهمجية بالجزائريين الذين خرجوا في مظاهرات سلمية، حيث جاء في التقرير أنه توفرت معلومات مفادها أن الجار الأهلي المذكور في تقرير المعلمة المساعدة في عموشة، هو المسمى أحمد مفوض الذي يمتهن حرفة الحدادة بالمركز، وأنه بالفعل قام بحماية المعلمة، إلا أنه في المقابل قام بدور خلال الأحداث، وقد قتل، لذا يتعذر تقديم المكافأة له.مع العلم أن ماري سيمون جيوفاني، من أصول كورسيكية، هي ابنة ساعي البريد في عموشة الذي كان يسكن بجوار السيد مفوض أحمد المعروف بأحمد بن الموفق، وهي معلمة مساعدة بالمدرسة الفرنسية بعموشة، وقد كان من تلامذتها “الأهليين” سنة 1943: أحمد عقون، بوزيد بكاي، بلقاسم حلاتي المدعو أحمد، السعيد درقين المدعو السعدي، إسماعيل مفوض، ساعد حلاتي المدعو عبد الرحمن، مسعود خنتوت، علي قيرواني، لخضر حلاتي، إبراهيم داودي، لخضر سيدهم، الخير عباوي، الطاهر حلاتي، بوزيد خنتوت.أما عمي أحمد فهو أحمد مفوض بن محمد وتاسعديت حجام، حسب سجل الحالة المدنية لبلدية عموشة، ولد في 1890 بتاقيطونت، تزوج في 19 ديسمبر 1914 من مسعودة حملاوي بنت محمد بن لحسن والزهرة بن علاق، أب لولد وحيد هو مبروك المولود في 25 جويلية 1920 في منتانو، وقد استشهد في 1958 بمكان مجهول بعد اعتقاله وسجنه بعين الكبيرة لمدة 3 أشهر.شهادة عمي الطيب تؤكد الحادثةوحسب شهادة السيد الطيب شطيبي، فإن السيد أحمد مفوض كان ضمن المجموعة التي شاركت في مظاهرات 8 ماي 45، وكان وراء عدد من الأمور التي كانت بمثابة الشرارة التي ألهبت الأحداث، وأدت إلى انتشارها بسرعة إلى القرى المجاورة، وقد تم اعتقاله حسب شهادة عمي الطيب، رفقة مجموعة من المتظاهرين، من قِبل القوات العسكرية الفرنسية التي حلت بعموشة بسرعة كبيرة، رفقة كل من بشير قيرواني، عبد الله شطيبي (والد الطيب)، الشاوش مفوض، عبد الله خنتوت، السعيد غريب، الهاشمي خلفة، الربيع بن علاق، السعيد سايح، سليمان غريب، العربي تيشي (أول من استشهد) جمعوا في البداية في ساحة واسعة، ثم حُوِّلوا إلى مستودع كبير ملك للمعمِّر “طورا”. وفي يوم 9 ماي نقلوا إلى مكان يسمى المالحة بدوار بوعمران، وتم إعدامهم رميا بالرصاص بسرعة وبدم بارد، ولم ترخص السلطات لذويهم بدفنهم إلا بعد عدة أيام، وفي هذا روى صاحب الشهادة الذي انتقل إلى عين المكان أنه شاهد آثار الدماء عليهم، بطونهم منتفخة، يحيط الذباب والحشرات بجثثهم، حيث قام أهاليهم بدفنهم كل بطريقته الخاصة إكراما لهم، وسط الخوف الشديد من انتقام سلطات الاحتلال منهم.وسقط قناع فرنسا الاستعمارية..رغم أن سلطات الاحتلال الفرنسي، العسكرية والمدنية، قد حاولت إلصاق كل التهم والأوصاف والنعوت السيئة والقبيحة بالمشاركين في أحداث 8 ماي 1945 لتبرير القمع الدموي والوحشي غير المبرر الذي ارتكبته في حق الجزائريين العزل في تلك الأثناء، بغرض إظهار نفسها أمام الرأي العام العالمي في موقف الدفاع الشرعي عن النفس، فإن الكثير من المواقف أظهرت أن الجزائريين لم يكونوا في صورة أولئك المتوحشين المتعطشين للقتل، الذين يريدون ذبح السكان الأوروبيين المسالمين وفقط والسطو على ممتلكاتهم، بل كانوا بشكل عام مسالمين يدافعون عن أنفسهم بالوسائل المتاحة، فإن حدثت بعض التجاوزات من بعضهم فهي طبيعية جدا في مثل تلك الظروف من جهة، وبالنظر إلى تراكمات الماضي وحجم الخديعة التي تعرضوا لها من فرنسا المتحضرة التي استخدمتهم كوقود لاسترداد حريتها المسلوبة، وكرامتها المهدورة، وشرفها المستباح، خلال الحرب العالمية الثانية، فلم يكن الجزاء من جنس العمل كما يقال، وإنما من الطبيعة النفسية المريضة والعليلة لفرنسا التي لم تستوعب الدروس الكثيرة التي لقنت لها في تلك الحرب وفي غيرها، من جهة أخرى.وحسب تقدير الدكتور بشير فايد، فإن الأرشيف الاستعماري الفرنسي، ورغم عمليات التنظيف والتطهير التي تعرض لها، ها هو يكشف بنفسه عن تلك الأكاذيب والافتراءات، ويؤكد أن المشاركين في الأحداث قد استهدفوا في الغالب الغلاة والطغاة من المستوطنين وأفراد الجيش والشرطة والدرك الذين كانوا يقتلون على الهوية، والمسؤولين الإداريين ومعاونيهم من الجزائريين المتورطين في بؤسهم وتعاستهم، أما غيرهم فلم يتعرضوا لهم بأي أذى، بل إن بعضهم حافظوا على حياتهم بفضل حماية جيرانهم “الأهالي” لهم، مثلما حدث في عموشة للمعلمة المساعدة المسماة ماري سيمون جيوفاني وأسرتها.وفي المقابل، كان قرار سلطات الاحتلال في عموشة بمنع عائلة الشهيد مفوض أحمد ورفاقه الشهداء الذين سقطوا معه في المالحة بقرية اولاد جابر من دفنهم، وتركهم في العراء، كان مؤشرا على الإفلاس الأخلاقي والإنساني الذي كان يميز ممثلي الحضارة الفرنسية في الجزائر، هذه لا شك مفارقة عجيبة: جزائري ينتمي إلى فئة المعذبين في الأرض، مستواه التعليمي بسيط جدا، لم يتخرج من مدارس أو كليات عصرية، يقدم لفرنسا درسا بليغا في الأخلاق والإنسانية، عجز أعوانها المجرمون أو “تعاجزوا” عن فهمه وإدراك أبعاده المتعددة، فكان جزاءُ المنقذ الحرمانَ من حق الدفن، فمَن المتخلفُ والمتحضر: الجزائري أم الفرنسي؟ وإلى متى يستمر البعض منا في أحلامهم الزائفة بإمكانية الاعتراف والاعتذار عن جرائم “الاستدمار” الفرنسي في الجزائر؟ في حين تدل كل المؤشرات على أنهم مستعدون هم للاعتذار لفرنسا عن ما قام به الأجداد والآباء طيلة وجودها في الجزائر، وإنا غدا لناظره قريب.الدكتور بشير فايد رئيس اللجنة العلمية لقسم التاريخ والآثار. جامعة سطيف2مؤسسة 8 ماي تطالب بإعادة دفن بعض الشهداء إلقاء ضحايا المجزرة في حفر جماعية.. وفي كل مكان بعد 71 سنة من المجازر الاستعمارية، لا تزال جثث العشرات من الضحايا تحت التراب تنتظر إعادة دفنها، ورغم سعي مؤسسة 8 ماي 1945 إلى إعادة دفن الشهداء في مكان يليق بدمائهم الطاهرة، من خلال مراسلاتها المتكررة لمختلف الجهات، يبقى حيز مقبرة جماعية بإحدى مناطق سطيف مجالا يتنافس عليه البعض، في ظل الصمت، ولنا في هذا المقام نموذجان للمقابر الجماعية الكثيرة في سطيف.المجازر كشفت عن صورة أخرى للتضامنلثامن ماي يتاماه.. ولليتامى خيرة أبناء وهران خلفت مجازر 8 ماي 45 قتلى وجرحى، وخلفت أيضا ثكالى ويتامى أصبحوا بلا مأوى ولا إطعام ولا حماية.. ومحطمين نفسيا، غير أن أنفة الجزائري منذ الأزل كانت حاضرة، في صورة السيدة خيرة بلقايد التي وصل إلى مسامعها خبر مأساة اليتامى فقررت التدخل.تأثرت خيرة بنت بن داود، كما كانت تُدعى، بالوضع كثيرا فقامت بنقل اليتامى إلى مدينة وهران، وكانت العائلات الوهرانية حينها في قمة الكرم والرأفة بأطفال تُركوا هكذا، وتم استقبالهم بحفاوة كبيرة. ورغم المخاطر والصعاب، فقد تحدت خيرة كل شيء، وبدأت في جمع اليتامى تباعا من خراطة وبني عزيز وسطيف، ووصل عدد الذين جمعتهم حينها حوالي 45 يتيما، كانت لهم أما اسمها خيرة، كانت حسب شهادات بعضهم في غاية العطف والحنان، وكان سكان وهران في غاية الكرم بعد توزيع اليتامى على العائلات، ومنهم الشيخ عمار صبيعة الذي تحدث عن عطف السيدة خيرة التي وضعته لدى عائلة بوكروشة، ورفض ربها كل أنواع الابتزاز من الإدارة الفرنسية لأنه تبنى يتيما من أطفال 8 ماي 45، وبعدها بسنوات، كشف رب العائلة السر للشيخ عمار الذي استلم كذلك قائمة بأسماء اليتامى والعائلات التي آوتهم. ووجد الجميع رعاية الله في المقام الأول، ثم خدمة إنسانية من سيدة العطف والحنان خيرة بنت داود التي تخلت عن رفاهية العيش وتفرغت لخدمة الأيتام. وبعد اندلاع الثورة المباركة التحقت هذه البطلة بالنشاط الثوري، لكن تم اكتشاف أمرها من قبل الشرطة الفرنسية التي ألقت عليها القبض، ووضعتها تحت الرقابة القضائية، وقد زارها حينها أبناؤها الذين كفلتهم، على غرار عاشوري من سطيف، وبعد سنوات عادت لمنزلها بعد تدهور صحتها، ووضعت تحت الإقامة الجبرية، وودعت الحياة سنة قبل أن تشم ريح الحرية وتنعم باستقلال وطن احتضن الجميع.وقد خلفت مجازر 8 ماي 45 إجمالا عددا كبيرا جدا من اليتامى وفقا لإحصائيات السلطة الاستعمارية، ففي تاريخ 20 أوت 1946، أعلن حاكم فرنسا بقسنطينة عن وجود 1370 يتيم، من بينهم 19 دون عائلات، منهم 5 يتامى تم التخلي عنهم بشكل نهائي. و600 يتيم بمنطقة سطيف، منهم 5 بلا عائلة إطلاقا يقطنون بني عزيز. وقبلها في 6 أوت 1946، حملت برقية السلطة الاستعمارية 30 اسما ليتامى في بلدية تاقيطونت أو تيزي نبشار وخراطة. وفي سبتمبر 1946 أعلن الحاكم العام عن وجود 19 يتيما من جهة الأب والأم ولم يتم تبنيهم. وفي سنة 1946، كما نقل المؤرخ ميخاليف بوصيف، تم استقبال 15 يتيما في محطة وهران من قِبل حوالي 800 شخص. وتخفي قصة كل يتيم حينذاك أياما من المعاناة والحرمان من جهة، ودروسا من التضامن والدفء الجزائري من جهة أخرى.الإعلامي كمال بن يعيش لـ “الخبر” “تحقيق صحفي حول المجاوز تطلب مني 10 سنوات كاملة”جلست “الخبر” مع الزميل الإعلامي كمال بن يعيش، رئيس مكتب يومية “الوطن” الناطقة بالفرنسية، وتحدثت معه عن كتاب جديد في شكل تحقيق صحفي سيصدر قريبا حول مجازر فرنسا الاستعمارية في 8 ماي 45، التي كانت حسبما وصل إليه من قناعة مؤامرة ضد الجزائريين.فكرة كتاب حول المجازر كيف وُلدت؟ أعتقد كصحفي بأنه من واجب ومن مسؤولية رجل الإعلام الذي يعاشر ويعايش فترة عصيبة من حياة الأمة، خاصة أولئك الذين ذاقوا الويلات وشربوا مرارة ما أسميه شخصيا “الثلاثاء الأسود”، أن لا يسمح بمرور هذه الفترة مرور الكرام، وأن يسجل شهادات من عايشوا الحدث، حتى لا نحاسب تاريخيا بأننا قصرنا في حق الوطن والتاريخ، وتركناهم يعودون لبارئهم دون نقل وقائع مهمة في حياتنا الحديثة.هل هناك أسباب شخصية دفعتك لهذا العمل؟ عندما نتحدث عن ضحايا فلا بد لنا من تدوين هذه المأساة الإنسانية في شكل عمل، في شكل تحقيق صحفي بدأ منذ سنة 2005، ولم ينته إلا قبل أيام قليلة، ولا يزال في مرحلة الطبع.ألم تستفزك كتابات المؤرخين الفرنسيين التي جعلت من الجلاد ضحية؟ صحيح، هناك سبب قوي آخر جعلني أسير بخطى ثابتة لتجسيد العمل، فكتابات الفرنسيين غيرت الأدوار، بحيث وضعت المجرم في خانة الضحية وجعلت من الضحية مجرما.مجازر 8 ماي شهدتها مناطق أخرى مثل قالمة وخراطة. لماذا اقتصرت على سطيف فقط؟ أول سبب جعلني أقتصر في هذا العمل على سطيف فقط هو أني ابن المنطقة، وكانت لي فرصة الاحتكاك بكثير ممن عايشوا الأحداث وتألم من شدة المأساة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن منطقة سطيف مقارنةً بباقي المناطق لم تحظ بكتب وكتابات كثيرة وشاملة حول الموضوع، فولاية قالمة مثلا كانت أكثر حظا في مجال الكتابة والتأريخ، حيث خصص لها المؤرخون حيزا هاما، جزائريين وفرنسيين، وكلها كتابات قيِّمة وذات مستوى عال من الحيادية والموضوعية، وعليه رأيت أن من الواجب أن نسلط الضوء على الكثير من المناطق، أو ما يسمى بالجزائر العميقة التي عاشت الجحيم ولم يكتب عنها أحد.حتى في سطيف توجد مناطق كثيرة لم تنل حظها من الكتابة. هل العمل يشملها؟ نعم، العمل يشمل الكثير من المناطق التي تبرز في مجال الكتابة لأول مرة، على غرار بني بزاز في بابور والبحيرة والخربة والموان في عين عباسة وبوقاعة وواد البارد وغيرها من المناطق التي تستحق إماطة اللثام عنها.على قلة الكتابات السابقة، هل هذا العمل الجديد يحمل الجديد؟ الجديد في العمل يتعلق أولا ببعض الإجابات التي يتضمنها على الكثير من المغالطات التي تعمدها كُتاب فرنسيون، كما كشف العمل عن مناطق جديدة عانت الويلات حينها على غرار العلمة، كما كشف العمل عن مقابر جماعية لضحايا 8 ماي، لكن كتابات فرنسا لم تقر بها، فسطيف تحتضن الكثير من المقابر الجماعية، بل قُل إن سطيف برمتها مقبرة جماعية، كما أشار العمل إلى الميليشيات الأوروبية التي حاولوا إخفاءها مرارا، والعمل يثبت تورطها ووجودها آنذاك بالدليل، كما يحمل العمل جديدا آخر يتعلق بالغوص في بني عزيز وغيرها من المناطق.. باختصار مجازر 8 ماي لم تُبح لنا، بعد 71 سنة، بكل أسرارها.بدأت العمل منذ 2005 ولم تنته إلى اليوم ! بكل صراحة، موضوع العمل المتعلق بواحدة من مجازر الاستعمار الفرنسي صعب جدا، والتأخر لمدة 10 سنوات كان لأسباب شخصية وأخرى مهنية موضوعية، فمن الصعب أن تنجز عملا جيدا في مدة قصيرة، والنوعية في العمل تطلبت مني الكثير من التضحيات والجهد، حيث كان لزاما علي أن أجتهد في الجلوس مع الذين عايشوا الحدث في مناطق متفرقة، وكان علي أن أكون على اطلاع على كل الوثائق من كتب وجرائد صادرة في تلك الفترة، والاطلاع أيضا على الأرشيف الذي لم يكن الوصول إليه سهلا على الإطلاق، فالأبواب قد تغلق أحيانا، ولا أخفي عليك بأنني أحيانا أشعر بالتعب وأرغب في التوقف، لكن تشجيع الكثيرين جعلني أواصل العمل الذي هو في مرحلة التصفيف حاليا، وتنقصه بعض اللمسات فقط.وأنت تنجز العمل، هل أثرت فيك أحداث أو مواقف معينة؟ آثار همجية المستعمر في بني عزيز أثرت في بشكل لافت، كما تأثرت كثيرا وأنا أستمع لشهادات الشهود الذين عايشوا الحدث، وجميعهم مازال يتذكر ولم ينس لحظة واحدة من العذاب، ورغم هذا أقولها وأتحمل مسؤوليتها: لقد كانوا في منتهى الموضوعية وهم يدلون بشهادتهم، ولم يظهر للحقد والغل أثر على شهاداتهم.بعد 10 سنوات من الانغماس في البحث في المجازر، ما هي قناعاتك اليوم؟ فعلا.. طيلة هذه المدة أصبحت جزءا من التاريخ، وقد وصلت إلى قناعة تاريخية مثبتة بالأدلة بأن أحداث 8 ماي كان مؤامرة ضد الشعب الجزائري، وجريمة ضد الإنسانية.لخــضر بوطــبة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصرجامعة محمد لمين دباغين – سطيف17 ضحية أعدموا ودفنوا جماعيا في دوار بورڤازن بعين الكبيرةالمثال الأول للمقابر الجماعية في سطيف ساقه لـ “الخبر” الدكتور لخضر بوطبة من قسم التاريخ بجامعة سطيف2، الذي نقل شهادة السيد بوطبة السعيد المدعو العياشي (وهو ابن أحد الضحايا وكان عمره يومئذ 18 عاما)، وكانت عين الكبيرة من أهم المدن التي كان يتردد عليها فرحات عباس لبث الوعي السياسي، باعتبارها ملتقى سكان المداشر والدواوير والقرى المجاورة.وحسب الدكتور، فقد كان يوم 8 ماي 1945 مشهودا، إذ هب الجميع لمناصرة إخوانهم في سطيف، ووقعت مشادات مع المعمرين سقط فيها ضحايا من الأوروبيين، سرعان ما توقفت في مساء نفس اليوم بعد وصول القوات العسكرية المدعمة بالجنود السنغاليين مدججين بالأسلحة الحديثة إلى مدينة عين الكبيرة قادمين من سطيف، حيث تم تجميع سكان المدينة عند ساحة الكنسية آنذاك (مسجد البشير الإبراهيمي حاليا)، وتم استنطاق الجميع، واقتيد البعض إلى سجن مدينة سطيف، مع العلم أن سكان المشاتي والمداشر والقرى المجاورة لاذوا بالفرار مع أول ظهور للقوات الفرنسية عند مدخل المدينة، واعتصموا بالغابات المجاورة للاحتماء بها، والتحق بعضهم بجبال البابور. وفي المساء وصلت قوات إضافية من قسنطينة لتدعم القوات المتواجدة، لتبدأ فصول الانتقام الفظيع، حيث قامت القوات الفرنسية بحرق أكواخ المشاتي المحيطة بمدينة عين الكبيرة عن آخرها، نذكر منها مشتة لعڤاڤن ولقدايم والكونت والقراقرة وبورڤازن وأولاد خالد وأولاد سي قاسم، كما أتلفت المزروعات، ولم تسلم حتى الحيوانات من الانتقام، ودعت السلطة عن طريق عملائها من الجزائريين السكان إلى التهدئة وتسليم أنفسهم وأسلحتهم، كما طلبت من الفارين العودة إلى بيوتهم وأعطتهم الأمان.ومن بين هؤلاء سكان دوار بورڤازن الذي يقع على الطريق المؤدي إلى بابور، ويبعد عن مدينة عين الكبيرة بحوالي 2 كلم، والذين لم يكن يدور في خلدهم أن سلطة الاحتلال دبرت لهم مكيدة وتريد أن تغدر بهم، وكانوا كلهم فلاحين، حيث غرر بهم أحد الحركى وأعطاهم الأمان وطلب منهم الحضور إلى مكان في الدوار يسمى “سمومة”، بحجة أن الحاكم يرغب في التحدث إليهم، فلما حضروا وكان عددهم 17 شخصا أُمروا بالوقف في صف واحد، وطُلب منهم أن يستديروا بظهورهم، حينئذ أدركوا أنها مكيدة ونطق الجميع بالشهادة فأطلق عليهم الجنود النار ببرودة دم. لم تتوقف العملية عند هذا الحد، بل ذهب الحقد والوحشية وروح الانتقام بالسلطات الفرنسية إلى حد ترك الضحايا مرميين في نفس المكان لمدة 3 أيام دون دفنهم، وصدرت الأوامر بمعاقبة كل من يقترب من جثث الضحايا من الأهالي.بعدها جاءت السلطات الاستعمارية بجرافة وحفرت حفرة كبيرة تم رمي الضحايا فيها ثم ردمها، في سلوك ينافي كل قيمة الإنسانية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى وروح الانتقام الشريرة من أشخاص عزل سقطوا ضحية الغدر والخيانة.إنها إبادة فعليةيرى الدكتور بوطبة بأن ما وقع يدل صراحة على أنها إبادة جماعية حصلت في نفس اليوم بمشتة القراقرة وراح ضحيتها 6 شهداء. وفي مشتة الكونت سقط 5 شهداء، والملاحظ أن الشهداء كانوا عزَّلا وأعدموا بنفس الأسلوب.وبعد مرور 3 أشهر على المجزرة، لم يهن على الأهالي ترك شهدائهم يُدفنون بتلك الطريقة المهينة، فقرروا نبش الحفرة واستخراج الجثامين في جنح الظلام خوفا من بطش الاستعمار، وأعادوا دفنهم في مقبرة الدوار.إن هذه الإبادة الجماعية التي صحبها إحراق المنازل والمزروعات ومطامير الحبوب وتصفية المواشي، هي جرائم أعادت للأذهان سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الجنرالات السفاحون خلال القرن 19، أمثال بيليسي وسانت أرنو وبيجو.الدكتور سفيان لوصيف أستاذ محاضر بجامعة سطيف 240 ضحية أخرى في عين الرويبموقعها على سفح جبل لعنيني، تصادفك عين الروي في سطيف، الساحرة التي يقطنها قرابة 20 ألف ساكن، وبإمكان الزائر ولوجها بعد تجاوز منعطف الطريق لتظهر منشرحة وسط مساحات خضراء. ومن الصعب أن يدرك اليوم شخص بأن هذه المنطقة كانت ذات ربيع ماي إلى جويلية 1945 مسرحا لمجازر واسعة النطاق دخلت ضمن عمليات الإبادة، هذه العمليات من إطلاق النار والقتل والاغتصاب وانتهاكات هستيرية ارتكبها عساكر وميليشيات فرنسا الاستعمارية، ولم يبق الكثير من شهود عيان مجازر 8 ماي 1945 بمقر هذه البلدية الواقعة شمال غرب سطيف.جبروت فرنسا يسوقه لـ “الخبر” في المثال الثاني عن المقابر الجماعية الدكتور لوصيف سفيان من جامعة قسم التاريخ في جامعة سطيف2، الذي قال إنه بعد مسيرة مدينة سطيف صباح 8 ماي 1945 وما أعقبها من قمع وتقتيل للمتظاهرين، عاد من سلموا من القتل من سكان عين الروي إلى بلدتهم، وفور ذلك ذاع الخبر، وهب سكان القرى والمداشر إلى ساحة مقر البلدية وأعلن الجهاد انتقاما من العدو وثأرا لضحايا المظاهرة السلمية في مدينة سطيف. فأقيمت الحواجز على الطرقات وقطعت أسلاك الهاتف، وأسرعوا إلى محاصرة أماكن المعمرين، فتدخل الجيش الفرنسي القادم من مدينة سطيف، وأطلق النار عشوائيا على كل من عثر عليه في الطريق، فانصرف الجمع وبعدها بدأت عملية المداهمة من قبل جنود الجيش الفرنسي، وتم تدمير وحرق أزيد من 250 منزل، إلى جانب مزارع وحقول الجزائريين، ولم تسلم حتى الحيوانات من مواشٍ وخيول. وفي اليوم التالي، يضيف المتحدث، حوصرت المنطقة من جميع نواحيها، ووجهت نداءات من قبل رئيس البلدية للمواطنين للتجمع وتسليم أنفسهم وأسلحتهم، وبدأت عملية التعذيب والاستنطاق الجماعي، وتم فرز مجموعة من السكان وأُعدموا فورا، ومنهم من زُج بهم في البرج الإداري، ليحاكموا بتهمة المساس بأمن الدولة، وآخرون سُجنوا في سجن سطيف وسجن لومباز في باتنة وسجن البرواقية، وسجن الحراش، ومنهم من بقي مسجونا لمدة 17 سنة ولم يفرج عنهم إلا في ماي 1962 بعد وقف إطلاق النار. وحسب الأستاذ، فقد جاء في كتاب “سطيف بوادر المجزرة”، للمؤرخ جون لوي بلانش، أنه في نواحي عين الروي وبوقاعة قام الجيش الفرنسي بنشر كل وسائله في الحال والمجندين الرماة السنغاليين، الجنود المرتزقة ورجال الدرك المحملين على شاحنات خاصة، مزوَّدين برشاشات آلية ومحميين بمدرعات، بالإضافة إلى الآليات ذات الاستعمال المتعدد في عمليات القتل، وهذا للحيلولة دون انتشار الاضطرابات إلى بقية القرى. هذا عن جرائم الجيش الفرنسي، لكن جرائم المعمِّرين وميليشيات المدنيين لم يركز عليها رغم ضخامتها، والاغتيالات التي كانت من تنفيذ المليشيات خاصة المعمِّر آرنو، فالمدنيون الأوروبيون لهم ضلع في المجازر، ولم تسلم حتى النساء، فكانت سباح عائشة ضمن قائمة من نُكل بهم وقُتلوا، ولم يسلم كذلك عابرو السبيل الذين كانوا مارين من عين الروي، فقد قُتل 6 ينحدرون من القبائل الصغرى، ودفنوا في حفرة واحدة لا تزال إلى اليوم وأسماؤهم مجهولة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات