+ -

من الأمور الّتي يغفل عنها كثير من المسلمين كتابة الوصية، ولذلك ارتأيت بيانها والتّذكير بها، حتّى لا يتساهل النّاس في شأنها، وما في كتابتها من المصالح الدّينية والاجتماعية المختلفة. لو أنّك قلتَ لأحدهم: هل كتبتَ وصيتك؟ لنظر إليك نظرة استغراب وتعجّب، قائلا: وهل أنا على فراش الموت حتّى أكتُب وصيتي! ولا يعتبر بما يشاهده ويسمعه كلّ يوم ممّن يموتون ميتات فجائية تأتي بغتة. لقد أخبر المولى سبحانه أنّ مِن عقوباته اخترام النّفوس فجأة، فلا تتمكن من الوصية بشيء: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَاخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، فكم من ميت مرتهَن بدَيْنه، وكم من غنيّ لم ينتفع بماله بعد موته، وكم من حقوق ضيّعت، وأمانات لم تُؤَدَّ إلى أصحابها، كلّ ذلك سببه التّساهل في كتابة الوصية، يقول عليه الصّلاة والسّلام: “نفس المؤمن معلّقة بدَيْنه حتّى يُقضَى عنه”.إنّ الوصية سُنّة المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء قبله، فينبغي للمسلم أن يقتدي بهم، فيُوصي أولاده وقرابته من بعده بتقوَى الله والتمسّك بدِينه، ويُوصيهم بما وصَّى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.والوصية تعتريها أحوال ثلاثة: فقد تكون واجبة، أو مستحبّة، أو محرّمة، فهي تجب على المسلم إذا كانت عليه حقوق لله تعالى، كالنّذر والزّكاة والحجّ، أو عليه ديون للخَلق، أو له ديون على النّاس لم يعفهم منها، قال صلّى الله عليه وسلّم: “ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده”، يقول عبد الله بن عمر: ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعتُ رسول الله قال ذلك، إلاّ وعندي وصيتي.وتُستحب الوصية لمَن عنده سعة من المال أن يوصي بشيء منه يُنفَق في أعمال البرّ، ويكون له صدقة جارية بعد موته، وهذه الوصية لها شرطان: الأوّل: أن تكون بالثلث فما دون ذلك، لخبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلتُ: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلاّ ابنة لي، أفأتصدّق بثلثَي مالي؟ قال: لا، فقلتُ: فالشّطر؟ قال: لا، ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “الثلث، والثلث كثير، إنّك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس”. الشرط الثاني: أن تكون لغير وارث، لحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته عام حجّة الوداع: “إنّ الله قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، فلا وصية لوارث”. وتكون الوصية محرّمة بما يخالف الشّرع، كأن يوصي أهلَه بالنّياحة عليه، أو بقطع رحمه، أو إلحاق أذى بالمسلمين، أو الإضرار بورثته، فمَن فعل شيئًا من ذلك فإنّ وصيته لا تصحّ ولا تُنفّذ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، والمراد بالجنف الخطأ، وذلك كأن يوصي ببيع شيء لفلان من النّاس محاباة، أو يوصي لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك، إمّا مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وشفقته، أو متعمّدًا آثمًا، وهذا معنى: {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا}.وللوصية فوائد جمّة عظيمة، ففيها الأجر العظيم لمَن كتبها طاعة لله ورسوله، وكذا لمَا فيها من المواعظ الّتي يُرجى الانتفاع بها، ومن فوائد كتابتها إبراء ذمّته من المخالفات الشّرعية والحقوق المالية المترتّبة عليه، وأيضًا لحسم النّزاعات المحتملة، وإنهاء الخلافات الّتي قد تحدث بين الورثة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات