يشن سماسرة الغزو الثقافي الآن حملة مسعورة على الأقطار الّتي اتّجهت إلى تطبيق شرائع الحدود والقصاص، ويتندّرون بأحكام “العين بالعين والأنف بالأنف” ويلمزون حكومة السودان لأنّها جلّدَت قسيسًا يحمِل مقادير كبيرة من الخمر.وقد بحثتُ في موضوع القسيس المجلود، وعناني أمره، لأنّ الشّريعة تترك النّصارى يأكلون الخنزير ويشربون الخمر دون خطر، وتعتبرهما مالاً له قيمة عند أصحابه، وترفض العدوان عليه..فعلمتُ أنّ هذا القسيس كان يتحدّى التّشريع الإسلامي، ويقاوم تحريم الخمر بين المسلمين، وأنّه لم يجلد حدّ السكر، وإنّما تمّ تعزيره ليتأدّب مع الدولة الّتي أضافته فلا يهاجم شريعتها..وقد رفض السودان احتجاج الدول الّتي عضبت لهذا التعزير، ولا ريب أنّه محقٌّ في هذا الرفض.ونحن نستغرب الهياج الّذي صحب تطبيق أجزاء من الشّريعة تتصل بالحدود والقصاص، ويزداد استغرابنا عندما يصدر ذلك عن “مسلمين”! أليس معنى ذلك أنّ الاستعمار الثقافي قد بلغ قمّة النّجاح لأنّه أغرى لفيفًا من حملة الأقلام بالتمرّد على دينهم واستنكار مقرّراته؟ونحن نعلم أنّ التّشريع الإسلامي أوسع من دائرة الحدود والقصاص، نعلم أنّ الحدود والقصاص يأخذان صفحات معدودة من كتابه الضخم الحافل، فهل يعني ذلك أن نقول لمَن اهتمّوا بهما: دعوهما أو نفّذوا الكتاب كلّه؟الطبيعي أن نقول: لقد بدأتم خطوة في الطريق السّليم فلا تتوقّفوا وامضوا في الطريق إلى نهايته، وليوفّقكم الله.. على أنّا لا نكتفي في خدمة الشّريعة بهذا النّصح السّلبي، بل نريد إخراس أجزاء الغزو الثقافي، ومنعهم من اتهام الشّريعة بالقصور، أو مجافاة المصالح العامة.لقد ساءني أنّ قانونيًا صالحًا وضع موادً لحدّ السّرقة تمثّل الصّرامة كلّها، وتعتمد على أقسى الأقوال، حتّى ليخيّل لمَن يقرأ مشروعه أنّ الإسلام مولع بقطع الأيدي وإلحاق عاهات مستديمة بأكبر عدد من النّاس، وهذا مسلك رديء. ففي قوانين الأسرة الّتي تعتمد على الفقه الحنفي في بلادنا، رأت المحاكم الشّرعية –عند وجودها- أن تقتبس أقوالاً أفضل وأجدى من مذاهب أخرى غير مذاهب الأئمة الأربعة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات