+ -

غير أنّه لم يكد يستمع إلى ما ألقيته من نصوص الحقائق المعروفة حتّى وقف معقّبًا على ذلك بكلّ إنصاف وقال: “إنّ اتّخاذ محمّد هذه الإجراءات الثلاثة منذ مطلع القرن السابع، وفي قلب الجزيرة العربية، حيث لا حضارة ولا دولة، يكفي وحده للدلالة على عظمة مفهوم الدولة التقدمي في الإسلام”. ثمّ لم يلبث أستاذنا هذا أن انقلب تلميذًا للشّريعة الإسلامية في آخر حياته، وقد أخذ يستدرك ما فاته حتّى أصدر كتابه الأخير في أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها العلمية العالمية. إنّ هذين النموذجين لأناس ثابوا إلى الحقّ، وهدوا إلى الصّواب، فنفعوا كما انتفعوا، لكن هناك عشرات لنماذج من الدكاترة والباحثين لا يفتر نشاطهم في تضليل الأجيال الناشئة خدمة لهذا الغزو الثقافي الغاش الخائن للحقيقة. في ميدان الحكم رأيتُ حملة خسيسة على عمر بن العزيز الخليفة الراشد الخامس، فعلمتُ أنها تقليد لمستشرق يتّهم الرجل النّزيه العدل بسوء الإدارة وضعف السياسة... في ميدان الأدب، رأيتُ من يصف أبا الطيّب المتنبي بأقبح الخصال، وللدكتور طه كتاب في ذلك. تابع فيه مستشرقين يكرهون أبا الطيّب ويصفون شعره بأنّه مدائح مرتزق، ومسلكُ متقلّب،والجدير بالذّكر أنّ هؤلاء المستشرقين يسكتون عن أغلب أدبائهم المتّهمين بمخازٍ خلقية، وشذوذ منكور. والمتنبي مدح كثيرًا وهجا كثيرًا، وفي تضاعيف قصائده حكم لم ينطق بها شاعر من قبله، ولم تؤثر عن شاعر في الغرب... وقد قارن العقاد في كتابه (مطالعات في الأدب والحياة) بين المتنبي وأعظم فلاسفة أوربا، والرحجل إن لم يفقهم فلن يقل عنهم... وفيميدان الفقه –وهو مفخرة الفكر الإسلامي- وجدنا أناسًا يقولون: إنّ فقهنا مأخوذ من الفقه الروماني بالضبط كما تقول: إنّ قارون سرق ثروته من مقيم في أحد ملاجئ العجزة بمصر... وفي العلوم الإنسانية ليس للعرب نتاج! الفضل كلّه للإغريق..! المأساة الّتي نعانيها الآن أنّ عددًا من خريجي الجامعات الغربية عاد إلى بلاده فاقدًا رشده، لأنّه قبل أن يذهب لم يكن لديه نصاب من الفكر الإسلامي يحصنه من الوقوع في براثن المبشرين والمستشرقين. وبعد أن عاد كانت الثقافة الإسلامية في محنة، لأنّ معاهدها الكبرى نضبت منها الحياة، وفشت في أرجائها رائحة العفن. واستطاع الحكم الفردي أن يضع قيادها في أيدٍ لا تشرّف الدّين ولا تصون الحياة... ويكفيه منها أنّها تسبِّح بحمده...

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات