تعلمنا مهنة الصحافة، وكان أول ما تعلمناه، أن الصحفي عندما يكتب عليه أن يتفادى في المطلق الاستعانة بـ”الأنا”، لكن سلوكات الوزير حميد ڤرين تفرض عليّ اليوم التمرد على هذه القاعدة، لأنني قررت أن أكتب ما سأكتب وأنا المواطن الجزائري الذي يعشق بلده حد الجنون، والذي ينتابه في كل لحظة خوف قاتل على سمعتها واستقرارها ووحدتها. سأنأى بنفسي قليلا عن هذه القاعدة، لأنني أشم رائحة خيانة تزكم أنفي، خيانة لدم عشرات الأفذاذ قضوا وهم يؤسسون لمشهد إعلامي متفتح وحضاري ومقاتل في سبيل إرساء قواعد الجمهورية وما تحمله من تعددية وقبول للآخر، مشهد يليق بتضحيات شهداء الأمس البعيد وشهداء الأمس القريب، والغريب أن السلطة كانت هي المستفيد الأكبر من هذه الصورة الجميلة وتلك التضحيات الجسام، هذه السلطة التي كانت كلما اتهمت بالتعسف والتعدي على الحقوق، لوحت بـ”الخبر” و”الوطن” و”ليبرتي” و”لوكوتيديان دوران” و”الشروق” وغيرها من العناوين لتقول ورأسها يناطح السحاب: انظروا إلى الصحافة الجزائرية.. انظروا إليها وهي تقول ما تشاء وتنعم بحرية لا وجود لها تحت شمس باقي جيراننا العرب حتى في أحلامهم الأبعد والأكثر وردية.. خيانة لدماء فحول هذا الوطن، وكان منهم عمر أورتيلان وسعيد مقبل وطاهر جاووت وإسماعيل يفصح وجيلالي اليابس وبوخبزة وعبد الحق بن حمودة الذين سقطوا في ميدان الشرف، في وقت اختار غيرهم الهروب إلى فرنسا وبريطانيا وأمريكا والمغرب.. قبل أربع سنوات تلقيت دعوة لزيارة بولونيا رفقة زملاء من “ليبرتي” والوطن” و”المجاهد”، وبما أنني كنت المعرّب الوحيد في الوفد، دُعيت إلى إلقاء محاضرة في معهد الدراسات الشرقية بجامعة فارسوفيا، ويكفي أن نعلم بأن هذا المعهد هو الأكبر والأشهر في أوروبا، كما أنه المدرسة التي يمر عبرها جل الدبلوماسيين البولونيين الذين يوجهون إلى الاشتغال في العالم العربي. كان موضوع المحاضرة: لماذا بقيت الجزائر بمنأى عن عواصف الربيع العربي؟ وقلت في كلمتي، التي أثارت نقاشا استمر لأكثر من ساعتين داخل قاعة ممتلئة عن آخرها: الجزائريون يعرفون أكثر من غيرهم معنى أن تسقط الدولة، والربيع العربي، في قراءة جزء كبير من نفس الجزائريين، قد يهدد بنسف بعض الدول وليس بإسقاط الأنظمة فيها وحسب، وليس النموذج الليبي ولا النموذج اليمني ولا النموذج السوري علينا ببعيد.وقلت أيضا إن الجزائريين لا يعانون مثلما يعانيه إخوانهم في بعض الدول العربية من أزمة كرامة، فالجزائري، على العموم، لا يهان في بلده، لا يبصقه أو يضربه أو يسبه الشرطي أو الدركي، قد يحدث هذا في أفعال معزولة، لكنه ليس سمتا عاما داخل المجتمع.وقلت أيضا إن الجزائريين يعيشون ربيعا منذ سنوات في قطاعات كثيرة، فالاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات لا تتوقف في التربية والصحة والجامعة وفي الأحياء والقرى والمدن. وقلت أيضا إن الصحافة في الجزائر تنعم بحد أدنى من الحرية، كما قلت إن الجزائريين يعرفون أكثر من غيرهم ويلات الإرهاب والتطرف، وأضفت بأن الجزائريين يعرفون أكثر من غيرهم أن الغرب “حبيبو في حجرو”، كما يقول المثل... كل هذه المعطيات الحقيقية تدفع الجزائريين إلى التفكير مليار مرة قبل اللجوء إلى العنف لإسقاط النظام.قلت هذا، الذي اختصره الزميل عمر واعلي من “ليبرتي” في تقرير جميل، زعزع فيه بعض حيائي وأخجل به بعض تواضعي، وأنا رئيسا لتحرير “الخبر”، ولم أكن بحاجة إلى توجيه أو نصح من أولئك الذين يتشدقون اليوم بالوطنية وحب الجزائر والخوف عليها، لأنني رضعت مصلحة الجزائر وتشبعت بحبها من والدي، رحمه الله، الذي ذاق صروف العذاب في معتقلات فرنسا ومحتشداتها وسجونها، وهو يشارك في ملحمة الدفاع عن شرف الانتماء، حينها كان حميد ڤرين مديرا للاتصال والعلاقات العامة في شركة “جازي”، ويمارس على العناوين الصحفية أبشع ما يمكن أن يُمارس من ابتزاز وإهانة وتحقير.. وحينها، طبعا، لم يكن بحاجة إلى مراجعة دروس أخلاقيات المهنة وقواعدها، التي صار اليوم من “أغبى” المحاضرين والخاطبين فيها. أنا بطبيعة الحال لم أكتشف الوطنية وسموها وجمالها في “الخبر”، لكنني في “الخبر” تشبعت أكثر بمعانيها، كلما دخلت قاعة الاجتماعات ووقفت أمام صورة الشهيد عمر أورتيلان، وكلما وقفت أمام الصفحات الأولى للجريدة التي تزين مقرها صعودا إلى الطابق الرابع، حيث مكتبي.. صفحات تشهد، كما تشهد الصفحات الأولى لأغلب العناوين التي قاومت وتقاوم من أجل البقاء، في جزائر زحفت عليها الرداءة، كما تزحف أسراب الجراد على الأخضر فترديه يابسا، على معارك باسلة ونبيلة ضد الظلام والفساد والتسلط. أتدري يا وزير الاتصال لماذا تشبعت بمعاني الوطنية كلما مررت على الصفحات تلك؟ لأنني في كل مرة أتذكر، والفخر يرفع هامتي إلى السماوات العلى، معارك “الخبر” الشريفة في الدفاع عن هوية الجزائريين، ومعاركها في الدفاع عن قيم الجمهورية.. طبعا ربما لا تتذكر أنت مثل هذه المعارك، ولا تعرف سمو قيمتها وقداسة معانيها، والعذر كل العذر معك، لأنك حينها كنت تنعم بالهدوء تحت أسوار قصر “جلالته” في المغرب.. على فكرة، ذكرني بربك يا وزير الاتصال، حين امتدت يد الهمجية لتنهي أيام الشهيد عمر أورتيلان في وسط العاصمة، وفي أحد أحيائها الأكثر شعبية، وفي معقل من معاقل الإرهاب فيها.. ذكرني بربك أين كنت يومها؟ كلما مررت بتلك الصفحات المعلقة على جدران المقر في حيدرة، تذكرت كيف دافعنا بشراسة عن موقف الجزائر في ليبيا، وعن موقف الجزائر في سوريا، حتى اتهمنا بعض الزملاء حينها بالوقوف إلى جانب الطغمة الحاكمة، لكننا في الحقيقة كنا ندافع عن قناعة راسخة على مبدأ تأسست عليه الدولة الجزائرية، مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول، كما كنا نستشرف أن التطرف سيكون أكبر الفائزين في طرابلس وبنغازي وسرت، وفي دمشق وحلب ودير الزور وحماة، وأثبت التاريخ أن قراءتنا لم تكن خائبة. كلما مررت بالصفحات تلك، تذكرت ما قدمته الجريدة دفاعا عن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وما كلفنا ذلك من عداوة تكاد تكون أبدية مع المخزن، طبعا أنت تعرف المخزن جيدا، فقد سبحت طويلا في عسله. تذكرت كيف وقفت “الخبر” سدا منيعا أمام محاولات زعزعة استقرار الجزائر والعبث بمعنويات شعبها وقواتها المسلحة، أثناء وبعد اعتداء تيڤنتورين الأليم. هذا ما قدمته “الخبر”، التي تريد اليوم اغتيالها بدم بارد، للجزائر، فما الذي قدمته أنت يا وزير؟.. آه ربما وجدت لك الآن بعض الإنجازات “العظيمة”، لكنك مع الأسف قدمتها ضد الجزائر وليس لها: - أنت اليوم تساهم في تصحير المشهد الإعلامي، وتشريد صحفييه وعماله “الزوالية”، ففي عهدك أغلقت صحف وقنوات، وتستعد صحف وقنوات أخرى لإعلان إفلاسها، بضغطك عليها وتآمرك ضدها وتعاليك المقيت على أهلها.. والغريب أنك تفتخر بذلك.- في عهدك تراجعت الجزائر بشكل مسيء في كل التصنيفات الدولية الخاصة بحرية الصحافة والتعبير.- في عهدك لم يعد للقطاع العمومي وجود، كيف لا وقد فرضت من بين ما فرضت على الصحف العمومية افتتاحية موحدة تسبّح بحمد ما تؤمن به أنت وحدك وتقدس لك، وهو الإجراء “الستاليني” الذي لاقى الرفض من طرف زملائنا في نفس الصحف.- في عهدك تراجعت دولة القانون والمؤسسات بشكل مخيف ومحزن ومخز، فقانون الإعلام مازال مجمدا، ولم تتذكر بأنه موجود إلا عندما أردت استعماله ظلما وعدوانا لاغتيال “الخبر”، كما أن قانون السمعي البصري مازال مجمدا إلى إشعار آخر.- أما المؤسسات التي ينص عليها القانون، فحدث ولا حرج، فلا سلطة ضبط للسمعي البصري ولا سلطة ضبط للصحافة المكتوبة ولا مجلس أخلاقيات مهنة ولا هم يحزنون، حتى بطاقة الصحفي “المحترف” التي بنيت وجودك عليها فشلت في تكريسها، بل إن القلة القليلة التي تقدمت لمصالحك للحصول عليها، تجد نفسها اليوم في بطالة كنت أنت السبب فيها.- في عهدك عاشت الصحافة المستقلة وتعيش أسوأ فترة في تاريخها، فأنت تفعل بها ما لا يفعله العدو بعدوه، ضغوط لم تعرفها حتى في عهد الحديد والنار.. في عهدك يا وزير تدحرجت سمعةالجزائر إلى الحضيض.. والعجب كل العجب أنك تحاول إقناع الناس بأنك تفعل كل هذا خدمة للدولة.. من سيصدقك يا وزير.. من سيصدقك؟إن كنت لا تعلم يا وزير فإنني أذكرك بأن التاريخ لا يرحم، وبأن المستقبل سيخرج لك كل هذه اللوثات.. وإن كنت لا تعلم فإنني أثير انتباهك إلى أن الناس سيقولون في المستقبل إن نظام الرئيس بوتفليقة شهد بسببك الحرب الأقذر والأشرس ضد التعددية والحرية، والحرب الأوسخ ضد الصحافة والصحفيين.. أهذا الذي تفتخر بتسجيله لرئيس الجمهورية الذي اختارك وعيّنك ووضع ثقته العمياء فيك؟ أهذا الذي تريد أن ينهي به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مسيرته في حكم الجزائر والجزائريين.. يا لها من خدمة سيلعنك التاريخ عليها، وقبله ستلعنك حاشية الرئيس نفسه، لأنها ستكتشف عاجلا أم آجلا ما سببته وتسببه لها من أضرار، كيف لا وأنت تقضي جل وقتك في حبك المؤامرات.. غريب أمرك والله.. تُعين وزيرا لتبني فتقضي وقتك في الهدم، لتحترم النصوص والمؤسسات فتقضي وقتك في الدوس على قوانين الجمهورية، لتجمع فتقضي وقتك في التفريق والتشتيت، لتخدم الشعب فتقضي وقتك في تقويض مكتسباته، لتساهم في تحسين صورة الرئيس فتشوهها وتصيبها في مقتل، لتفتح فتغلق.. إنك اخترت أن تدخل التاريخ لكن ليس من الباب الأوسع والأنظف والأشرف. أتعرف يا وزير لماذا ستنهزم في النهاية.. لأنك تخوض “حربا قذرة” ضد شرفاء هذا الوطن.. ستنهزم لأنك تخوض حربا وسخة ظالمة ضد الجزائر الجميلة، الجزائر المتمدنة، الجزائر النقية، الجزائر المحترمة، جزائر الحقوق والحريات، جزائر الصوت والقلم لا جزائر الكلاش والمحشوشة. أنسيت قول علي، رضي الله عنه: يوم المظلوم على الظالم أكبر من يوم الظالم على المظلوم. ستنهزم يا وزير لأنك تخوض حربا ضد الحرف العربي وضد دماء الشهداء الزكية، التي ستلاحقك لعنتها أينما رحلت أو ارتحلت.. “الخبر” لن تموت، والصحافة الحرة في الجزائر لن تموت لأنها شجرة يافعة طاهرة سقيت بدماء الطاهر جاووت ورابح زناتي وعبد الحميد بن مني وسعد الدين بختاوي وعبد الرحمان شرقو وجمال بوهيدل ومصطفى عبادة وإسماعيل يفصح ويوسف سبتي ورشيد خوجة وعبد القادر حيرش ومحمد حسان وحسان بن عودة ويحيى بن زاغو وعبد المجيد ياسف ورشيد بن داحو ومحمد موفق وفرحات شركيت وهشام غنيفي وياسمينة دريسي ومحمد لامين لاقوي والعيد آيت الحارة ومولود بارودي وإسماعيل سباغدي ولحسن بن سعد الله والطيب بوترفيف وفاراح زيان ومحمد الصالح بن عاشور وقدور بوسلهام وياسر العاقل ونصر الدين لكحل وأحمد يسعد وسعيد مقبل وزين الدين علي وصالح وعلي عبود وعبد الحميد يحياوي وناصر واري وجمال الدين زعيتر ومحمود وارهوم ورشيدة حمادي وحورية حمادي وعلي بوخرباش ومحمد عبد الرحماني ومخلوف بوخزر وعز الدين صايج وبختي بن عودة ومليكة صابور ومراد حمازي وأحمد تاكوشت ونعيمة حمودة وعامر واغني وسعيد تازروت وإبراهيم قروي وياسمين بريك ورجا براهيمي وسعيد براهيمي ورابح لعلالي وعبد الوهاب سعداوي وأحمد بوڤرة وسعيدة جابالي وأحمد مصطفى لزهر ومحمد فتح الله ونور الدين سردوك وخالد قرجومة وعمر أورتيلان وأحمد خلفون وحميد محيوت وحميدو بن خرف الله وخديجة دحماني وعبد الكريم بن داود ومحمد بلقسام وخالد مريود وطالب عدن ومحمد مقاتي وخالد أبو القاسم وعبد الله بوحاشك وعلاوة آيت مبارك ومحمد دربان وجمال درازة ونعيمة إيلول وعاشور بلغزلي ودليلة دريدش ومراد طعام وبلقاسم سعدي وسليم ترية وجيلالي آرابديو ويحيى عمور والهادي سليم وجمال بوشيبي وفريدة بوزيان وبوعلام تواري ومحمد قصاب ومقران حموي وبوسعد عبديش ومسعود بلاش وعبد الوهاب حروش وزوبيدة بركان وجمال الدين فحاصي وعزيز بو عبد الله. عاشت الجزائر والمجد والخلودلشهدائنا الأبرار
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات