38serv
أوضح الأستاذ محمد عبد الكريم أوزغلة، الباحث المتخصص في سيرة الروائي الإسباني “ميغيل دي ثيربانتس”، أن أسر هذا الأخير في الجزائر دام من الـ26 سبتمبر 1575 إلى 19 سبتمبر 1580. وقال أوزغلة، في حوار مع “الخبر” بمناسبة احتفال العالم بالذكرى الـ400 لرحيل ثريبانتس، إنه مع اجتماع شمل العائلة في 15 ديسمبر 1580 في مدريد، طوي ملف أسر أشهر كاتب في اللغة الإسبانية على الإطلاق في الجزائر، دون أن يطوى ما خلفته تلك التجربة في روحه وما أوحت به إليه من خواطر وألهمته من أدب يستمر خالدا حتى الآن في نظر نقاده في شتى لغات العالم.كيف يعرض المؤرخون أسر ميغيل دي ثيربانتس بالجزائر؟ البداية في أوديسية أسر ميغل دي ثيربانتس حظ عاثر، حيث إنه خلافا لما كان يأمله من انخراط في حملة جديدة بعد معركة ليبانت (1571)، حصل في 18 جوان 1575 على إجازته من الدون خوان دوتريش، قائد أسطول “التحالف المسيحي”، فقفل راجعا على متن الغاليرة “صول” (الشمس) إلى بلاده، حاملا رسائل من الدون كارلوس دي أراغون نائب ملك صقلية، والدون خوان دوتريش إلى ملك إسبانيا فليب الثاني، تحفل بالإطراء بشخصه، حيث يقترح الدون دوتريش تكليف ثيربانتس بقيادة إحدى الحملات في اتجاه إيطاليا. غير أن قدر ثيربانتس وشقيقه ومن معهما سار في اتجاه هو غير ما كانوا يأملون، والرسائل التي كان ثيربانتس يعلق عليها آماله من أجل ترقي ذرى المجد سقطت بين يدي الرايس مامي أرنوط آسره في خريف 1575، الشيء الذي حمله على الاعتقاد بأن سبيّه من عائلة ذات شهرة وجاه، ومن ثم فالفرصة مواتية له ليجني مقابل تحرير الجندي الأسير فدية معتبرة، وهو ما “جعل أسره شاقا وحراسته صارمة”. وخلال فترة أسر ثيربانتس وشقيقه ومن معهما، تمكن الأخوان من إيصال خبر وقوعهما في الأسر إلى أهليهما في إسبانيا، الأمر الذي حث والدهما على مباشرة مشوار من المساعي كان أوله بذل ثروته لافتداء ولديه، غير أن المبلغ الذي جمعه لم يكف إلا لافتداء وتحرير الأخ الأكبر رودريغو فقط في 1577.كيف تعامل ثيربانتس مع هذا المصير؟ أظهر ميغيل دي ثيربانتس إزاء هذا المصير التراجيدي نوعا من المرونة والتكيّف، وذلك بعقد علاقات مختلفة مع الأسرى منحته ثقة الجميع ماعدا من كان يبيّت له أمرا، والتصميم على إيجاد مخرج مشرف من الورطة التي وقع فيها، أو البقاء متشبثا ببصيص الأمل الذي يسكنه في استعاده حريته.وهل خطط للفكاك من أسره، أم بقي خاضعا مستسلما؟ يذكر مترجمو سيرة ميغيل دي ثيربانتس أربع خطط حبكها ونفذها رفقة أصفيائه من النصارى الإسبان، ففي صيف العام 1576 حاول رفقة شقيقه رودريغو وعدد من رفقائهما الأسرى الفرار إلى وهران للالتحاق بالحامية الإسبانية المتمركزة هناك منذ احتلال المدينة في 1509، غير أنها باءت بالفشل وكلفت الأديب الإسباني معاملة سيئة من قبل سيده الذي قام بتشديد حجزه بمزيد من الحرس والأغلال. فلم يبق إذن أمام ثيربانتس وشقيقه إلا أن يخبرا ذويهما في إسبانيا عن طريق أحد المتحررين حديثا بتفاصيل محنتهما وحاجتهما إلى المال لافتداء نفسيهما، وهو ما تحقق لرودريغو فقط بسبب عدم كفاية المبلغ المجموع للعملية. وهكذا كتب على ميغيل أن يرجئ تحريره وينتظر فديته في فرصة أخرى. وهناك محاولة ثانية تعرف باسم “مؤامرة المغارة”، وهي أكثر مؤامرات ميغيل دي ثيربانتس الأربع إتقانا من أجل الفرار من أسره في الجزائر، كما تعد من أشهرها لدى مترجمي حياة أديب إسبانيا الأول. وتتلخص تفاصيلها، كما يرويها شهود عايشوها، في العريضة الرسمية المنجزة لصالح ثيربانتس في 1580، من أن ثيربانتس أشار على أربعة عشر مسيحيا من ضمن أهم من كانوا أسرى في الجزائر للاختباء داخل مغارة كان قد علم بوجودها فيما سبق خارج مدينة الجزائر، حيث مكث بعض من المسيحيين المذكورين مدة ستة أشهر، بينما مكث آخرون بها أقل من ذلك. وخلال ذلك كله، سهر ميغيل دي ثيربانتس على تموينهم وعلى أن يعنى أشخاص آخرون بتزويدهم بما يحتاجون إليه. فقد كان حرص ثيربانتس شديدا على أن يرسل إليهم زادهم بانتظام، وكان بذلك يعرّض نفسه لخطر كبير على حياته حال انكشاف أمره بأن يجلد أو يحرق حيا. وحينما لم يتبق سوى ثمانية أيام عن الموعد الذي كان من المفروض أن تأتي فيه الفرقاطة التي أوصى شقيقه المحرّر في 1577 بالتكفل بإرسالها لتدبير الفرار على متنها، انضمّ ميغيل دي ثيربانتس لجماعة المسيحيين داخل المغارة.وحينما حضرت الفرقاطة بالفعل، وعلى النحو الذي أمر به ميغيل دي ثيربانتس، وفي الموعد الذي ضربه لها، مكثت ليلة غير بعيد عن المكان الذي استقروا به، غير أن عملية الفرار لم تكلّل بالنجاح بسبب “افتقاد البحارة للشجاعة؛ حيث لم يحاولوا القفز إلى اليابسة لإعطاء الإشارة لمن كانوا مختبئين في المغارة”.تقول المصادر التاريخية إن المدعو ألدورادور أبلغ سلطان الجزائر بفرار ثيربانتس، كيف وقع ذلك؟ فعلا، فلم يمر مشروع ثيربانتس دون أن يلفت انتباه من كان يضمر له أمرا، خاصة المدعو ألدورادور من مليلة، الذي علم بالعملية فوشى بهم إلى سلطان الجزائر حسن فنيزيانو، فكشف له عمن كانوا في المغارة، موضحا له أن المدعو ميغيل دي ثيربانتس هو من يقف وراء العملية وهو من دبرها، وهو السبب الذي حدا بالسلطان، في آخر سبتمبر من السنة نفسها، للأمر بالقبض على ثيربانتس ورفاقه. وقد تحمل ميغيل ثيربانتس وحده تبعات العملية مصرحا للسلطان: “لا يتحمّل أحد من هؤلاء المسيحيين مسؤولية هذه العملية كوني أنا وحدي الفاعل، ومن حملهم على القيام بما قاموا به”. غير أن السلطان، وعوضا من أن يأمر بإعدام ثيربانتس على ما جرى عليه عرف المعاملة في مثل هذه الحال، سعى لشرائه من سيده دالي مامي حتى كان له ذلك، إذ دفع له 500 أوقية مقابلا له، بعد أن استبد به الطمع في أن يحصل من أهله على فدية تزيد قيمتها على 1000 أوقية مقابل تحرير “الكباليرو”.لقد انتهت محاولة فرار ثيربانتس الثانية به مملوكا بين يدي السلطان حسن باشا فنيزيانو. ويفيد إميل شال بأن سلطان الجزائر أمر، بعد شرائه، بحبسه خمسة أشهر لا يرى فيها النور من شهر أكتوبر 1577 إلى فيفري 1578.وهل ركن ثيربانتس بعد هذه المحاولات الفاشلة؟ تلت هذه المحاولة محاولتان أخريان تمثلت أولاها في إرسال أحد الموريين إلى وهران يحمل رسالة إلى السيد المركيز دون مارتان دي كوردوبا حاكم وهران وقائد حاميتها، ولشخصيات مهمة أخرى، من أجل أن يرسلوا إليهم بعض الجواسيس والأشخاص الثقاة الذين يقصدون الجزائر مع الموري المذكور، فيأخذونه ومعه ثلاثة آخرون من أصحاب الجاه والفرسان الذين يحتفظ بهم السلطان في سجنه.. “لكن الرسول الموري أوقف عند أبواب وهران وضبطت بحوزته الرسائل فاقتيد إلى مدينة الجزائر لتسليمه إلى حسن باشا الذي قام فور رؤية الرسائل وتوقيع ثيربانتس عليها، بخوزقة الموري”. أما بالنسبة لمصير ثيربانتس، فقد أمر بأن يجلد ألفي جلدة بالعصا، غير أنه نجا من تنفيذ العقوبة في حقه “ذلك أن أحد المرتدين الإسبان ويدعى: مراتو راييز (مراد رايس)، وهو من أصدقاء السلطان، تدخل وحال دون كيل ألفي جلدة له”.أما المحاولة الأخيرة، فجرت وقائعها ابتداء من شهر سبتمبر من العام 1579، وحبكها ثيربانتس بالتواطؤ مع المجاز جيرون الذي صار يدعى عبد الرحمان بعد ارتداده عن المسيحية والتاجر البلنسي أنوفر إكزارك. تواطأ الثلاثة على تمويل شراء فرقاطة ذات 12 مقعدا وتجهيزها لتهريب حوالي ستين فردا من المسيحيين إلى إسبانيا، غير أنه مع إشراف العملية على تمامها وبلوغ ترتيباتها غاية كمالها كشفها لسلطان الجزائر المدعو كايبان أحد المرتدين الفلورانسيين مقابل أوقية واحدة وجرة سمن. وهكذا ألقى حسن فنيزيانو بثيربانتس في السجن الملحق بقصره الخاص مرة أخرى، مع الأمر بوضعه تحت حراسة مشدّدة. ومكث ثيربانتس خمسة أشهر محبوسا يرزح تحت الأغلال، كل ذلك ريثما يحين موعد إبحار السلطان إلى القسطنطينية ونقله معه إلى هناك، إلى المدينة التي لو قدر له أن ينقل إليها فعلا لا افتراضيا كما فعل “القبطان الأسير” في رواية دون كيخوته، لما استطاع ربما، استرجاع حريته أبدا.وكيف جرت عملية إطلاق سراحه بعد سنوات طويلة من الأسر؟ في الوقت الذي بدت كل آفاق التحرّر من قيد الأسر مسدودة أمام ثيربانتس رغم سعيه الدؤوب في سبيل استرداد حريته “التي لا يعادلها شيء على وجه الأرض”، حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث طلب الباب العالي من سلطان الجزائر حسن باشا فنيزيانو الالتحاق بالقسطنطينية في مهمة عاجلة تاركا كرسي السلطنة لخليفته جعفر باشا، وفي الوقت الذي كان حسن باشا يستعد لركوب البحر في اتجاه عاصمة الخلافة العثمانية، حل بمرفأ الجزائر وفد إسباني على رأسه فراي خوان جيل للمفاوضة حول تحرير عدد من الأسرى ومن بينهم ثيربانتس الذي كان على وشك الإبحار رفقة سيده الباشا مغلولا في قيوده.. ولم تستغرق المفاوضات أكثر من مدة الاتفاق على ترتيبات الفدية وإمهال الإخوة التثليثيين لاستكمال جمع ما قيمته 500 أوقية ذهبية طلبها السلطان مقابل رفع اليد عن السبي “المهم”.. هكذا إذن، قبض السلطان المغادر قيمة الفدية، قبل أن يعمد إلى فك آسار السبي في 19 سبتمبر 1580.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات