يقول عليه الصّلاة والسّلام: “نهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها، فإنّ في زيارتها تذكرة”، ترى مَن منّا ذاك الّذي يزور القبور في غير وقت دفن للعظة والاعتبار؟ خاصة زيارة قبور الأهل والأصحاب الّذين كان بالأمس يجالسهم ويضاحكهم، والآن هم بين أطباق الثرى، فأين المفارش العطرة، وأين المجالس العامرة؟ لقد تبدّلَت تلك المحاسن، وهُجرت المساكن، وجاءهم ما كانوا يوعدون: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}. ممّا سنّ لنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عند زيارة القبور أن ندعو “السّلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحَم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، أسأل الله لنا ولكم العافية”، كأنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينبّه في هذا الدّعاء إلى أنّك أنت الآن زائر، تدخل وتخرج من المقبرة، ولكن غدًا تدخل ولا تخرج، وتسكن فلا ترحل، وتُزار ولا تَزور، والأشدّ من ذلك أنّ النّاس تعمَل وتُصلّي وتصوم وتستغفر وأنت في قبرك لا تستطيع فعل شيء من ذلك، لقد انقطع العمل وحلّ الأجل، وجاء الحساب بما فيه.تنظُر أحيانًا داخل بعض القبور المفتوحة فما ترى إلاّ ترابًا في تراب، فتقول في نفسك: هل أستطيع أن أجلس في هذا القبر وهو مفتوح يومًا كاملاً؟ لا والله، فكيف إذا أُغلق عليَّ وأظلمت أرجاؤه وبقيت فيه وحيدًا فريدًا، ليس يومًا ولا يومين بل إلى حين يشاء الله، إلى قيام السّاعة، فتاالله ما أعظمها من وحشة، إنّ القبور تضيق وتتّسع وتنير وتظلم بحسب الأعمال، فإمّا روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النّار والعياذ بالله.ومهما اختلف النّاس في أيِّ القبور ستدفن، فإنّ لك قبرًا مكتوبًا مقدَّرًا لن تدفن إلاّ فيه، ويؤتى بجنازة أخرى فتدفن إلى جانبك، فيا سبحان الله، رجلان لا يعرفان بعضهما، لم يتجاورَا في الدُّور، لكنّهما تجاورَا في القبور، وبعد أن توضع في قبرك ويُحثى عليك التراب ينصرف القوم عنك مشغولين بالسّلام والتعزية: “مَن عزى مصابًا فله مثل أجره”، “من عزى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حلّة خضراء يُحبر بها، قيل: ما يحبر بها؟ قال: يُغبط بها”، كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: “استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنّه الآن يُسأل”.إنّك الآن أحوج ما تكون للدّعاء في هذا الموقف الموحش، فهي أوّل ساعة في القبر، حين يأتيك الملكان، فيسألانك: من ربُّك؟ ما دينك؟ من نبيّك؟ فأحوج ما تكون لدعاء إخوانك في هذا الموقف، يسألون لك الثبات والمغفرة والرّحمة.إنّ أحوال النّاس في زيارتهم المقابر مختلفة، منهم المتأثر الباكي، ومنهم المنشغل بالدّنيا حتّى في المقبرة، يرد على الرسائل، ويتحدث في الهاتف، ويضحك مع هذا، ويلهو مع ذاك، فيا سبحان الله، أفي هذا الموقف الّذي نتراءى فيه الآخرة، ونتذكّر النهاية! قال ثابت البُنَاني رحمه الله: كنّا نتبع الجنازة، فما نرى إلاّ متقنِّعًا باكيًا أو متقنِّعًا متفكّرًا، ويقول الأعمش رحمه الله: كنّا نشهد الجنازة ولا ندري مَن المُعزَّى فيها لكثرة الباكين، ليس أهل الميت فقط هم الّذين يبكون، كلّ النّاس يبكون فيها، وإنّما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ، كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ}.فيا أيّها الفاضل: ماذا ينفعك حين تدخل قبرك؟ أين أبناؤك الّذين بكوا عليك؟ أين أصحابك الّذين كانوا لا يتركونك؟ أين مالك الّذي كنت تشقى من أجله؟ الكلّ ذهب وتركك، لم يبق معك إلاّ عملك، ورد في الصّحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم: “يتبع الميت ثلاثة: فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتّبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله”.يقول الحافظ ابن الجوزي: “ما من أحد -لا مؤمن ولا فاجر- إلاّ وقبره يناديه بكرة وعشية: إمّا بالبشرى والسّرور، وإمّا بالويل والثبور، فمن فكّر فيه وفي وحشته، وضِيقه وغُمَّته كان عليه أوسع من الدّنيا، وأبدله الله خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وجعل القبر خيرًا من داره، فأكثِروا ذكره في الآناء والأوقات، وأطيعوا جبّار الأرضين والسّموات، عسى الله أن يجعله لكم روضة من رياض الجنّات، ويقيكم فيه الذل والحسرات، فاللهَ اللهَ، جدوا في العمل، فإنّ القبر أمامكم، والموت يطلبكم، يُفرّق ما جمعتم، ويخرّب ما قد بنيتُم بقطع الأنفاس، وينقلُكم إلى ضِيق اللّحود والأرماس، فمَن قدَّم إلى القبر عملاً صالحًا وجده روضة من رياض الجنان، ومَن لم يكن له عمل وجده حفره من حفر النّيران، فاستعدّوا له يا معشر الأصحاب والإخوان”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات