إنّ أهم ما يميّز المجتمع المسلم، هو أنه مجتمع مترابط، متضامن، متماسك، تنضبط مسيرةُ حياتِه بجملة من القيم المستمدة من الشّريعة الإسلامية، وتصلح أحواله بانتهاجه لمسلكها القويم، قد صِيغت شخصيتُه بالتربية الإسلامية، فانطبعت بخصائص هذه التربية. هذه الخصائص المميّزة هي الّتي تُكسب المجتمعَ مصادر المناعة والقدرة على التعامل مع عوامل التدافع الحضاري، والتكيّف مع مناخ كلّ بيئة، دون أن تُفقده عناصر القوة وسمات التميّز، أو تجرّده من هويّته الثقافية، أو تسلبه ذاتيتَه الحضارية. وإنّ التربية الإسلامية هي الّتي تصوغ المجتمع المسلم وتُنشئه تنشئةً متكاملة العناصر، لا يطغى فيها جانب على آخر، وإنّما تَتَوَازَنُ فيها جميع القيم الإسلامية، للترابط الجذري القائم بين القيم الأخلاقية والسلوكية، وبين القيم السياسية والعملية، بين تهذيب الرّوح وصقل الوجدان وترقيق الشعور وتقويم السلوك، وبين ترشيد الممارسة العملية لهذه القيم في الواقع المعيش على مستوى تدبير الأمور العامة، على تعدّد مراتب هذا التدبير.إنّ المجتمع الخيري الّذي يريده الإسلام ويقتضيه، هو المجتمع الّذي تسودُهُ القيم القرآنية، ويُقبلُ أفراده على المبادرة إلى فعل الخير انطلاقًا من هذه القيمة أو تلك من قيم أمّة المسلمين ومجتمعاتهم. وهذه القيَم تجعل للإنسانِ قيمةً ومنزلة، ولحياته طعمًا، وتزداد ثقةُ النّاسِ به، قال تعالى: “وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا” الأنعام:132.ويمكننا إجمالاً تعريف قيم التربية الإسلامية بأنها صفات إنسانية إيجابية راقية مضبوطة بضوابط الشريعة الإسلامية تؤدّي بالفرد إلى السلوكيات الإيجابية في المواقف المختلفة الّتي يتفاعل فيها مع دينه ومجتمعه وأسرته في ضوء معايير الدِّين والعُرف وأهداف المجتمع.وتؤدي القيم دورًا مهمًا في حياة الفرد والمجتمع، ويبدو ذلك في انتقاء الأفراد الصّالحين لبعض المهن، مثل رجال السياسة والدِّين وهي موجّهة وضابطة للسلوك الإنساني، كما تؤدّي دورًا مهمًا في تحقيق التوافق النفسي والاجتماعي، وفي عمليات العلاج النفسي، وتساعد في إعطاء المجتمع وحدته. ولهذه القيَم فوائد جمّة، فهي الّتي تشكّل شخصيةَ المسلم المتّزنة، وتوحِّد ذاتَه، وتقوّي إرادته، والّذي لا تهذِّبه القيم متذَبذبُ الأخلاق مشتَّت النّفس، ينتابه الكثيرُ من الصراعات، قال تعالى: “أفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” المُلك:22. وهي تؤدّي دورًا هامًا في تشكيل الشخصية الفردية وتحديد أهدافها في إطار معياري صحيح، وتعمل على إصلاح الفرد نفسيًا وخُلقيًا وتوجّهه نحو الإحسان والخير والقيام بالواجب، وتحافظ على تماسك المجتمع فتحدّد له أهداف حياته ومُثله العُليا ومبادئه الثابتة وتقيه من الأنانية المفرطة والنّزعات والشّهوات الطائشة..وهذه القِيَم تحفَظ الأمنَ، وتقِي من الشّرورِ في المجتمع، لأنَّ تأثيرَها أعظم من تأثيرِ القوانين والعقوباتِ، فالقيَم المتأصِّلة في النّفس تكون أكثرَ قدرةً على منع الأخطاءِ مِن العقوبة والقانون. وأصحابُ القيَم يؤدّون أعمَالهم بفعاليّة وإتقان، وسوء سلوكِ القائمين على العمَل راجعٌ إلى افتقادهم لقِيَم الإيمان والإخلاصِ والشعور بالواجِب والمسؤوليّة.والقيَم تدفع الفرد المسلمَ وإن كان في ضائقة ماليّة إلى إغاثة الملهوف وإطعامِ الجائع، وتجد المسلمَ المؤمن يمتنِع عن الرّشوةِ والسّرقة، والمرأةَ تحافِظ على كرامَتِها وتصون عِفَّتَها وتنآى بنفسِها عن مواطن الفتنةِ والشُّبهة ولا تستجيب للدّعاوَى المغرِضة والمضلِّلة، ذلك أنّ الإيمانَ هو النبعُ الفيّاض الّذي يرسِّخ القِيَم وتُبنى به المجتمعات ويوفِّر لها الصّلاح والفلاحَ والأمن والتنمية. ويَتقوّى المجتمع بتَحصينِ القِيَم من ضررٍ يصيبها أو تيّارٍ جارف يهدِمها، وذلك بتَأسيسِ الجيل منذ نشأتِه على القِيَم وإبرازِ القدواتِ الصّالحة للأجيال المؤمنة، والله تعالى يبيِّن لنا نماذجَ من القدوة الصّالحةِ الّتي يجِب أن تقدَّم للأجيال حتّى يتخلَّقوا بأخلاقها ويسيروا على نهجِها، أجلُّ القدوات رسولُنا صلّى الله عليه وسلّم: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ” الأحزاب:21. ولم يحفَل تأريخٌ بخيرةِ النّاس وعظمائِهم الّذين زكَّى الله نفوسَهم وطهَّر قلوبهم مثلَما حفَل به تأريخُنا الإسلاميّ، فلِمَ تعمى الأبصار عنهم؟! “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ” الأنعام:90.والمزرعَة الأولى لبناءِ القيم أسرةُ يقودها أبوان صالحان، يتعلَّم الولد في البيت والمدرسةِ القيَم ويمتثِلها، يمارس الفضيلة وينآى بنفسِه عن الرذيلة.وعمليّة بناء القيَم عملية دائِمة مستمرَّة لا تتوقَّف، وهي أساسُ التربية في البيت والمدرسة وكافّة نواحِي الحياة، كما يجب التّحذيرُ من المفاهيمِ التربويّة المستورَدَة الّتي تتعارَض مع قيَم الإسلام، ولا سيّما في ظلِّ العولمة، وإزالَة كلِّ ما يخدِش الحياءَ ويحطّم القيَم، كما ندعو المجتمعَ بكل أفراده وجميعِ مؤسَّساته العامّة والخاصّة أن يتعاونوا في نشرِ القيم وتثبيتها في النّفوس، ثمّ متابَعَتها حتّى تصبِح جزءًا أصيلاً في سلوكِ النّاس وتعامُلِهم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات